اضطراب في حين تحليل البيع ، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم ؛ إذ يتعذّر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام ، وإن كان قولا حاليا بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا ، فهو استعارة. ويجوز أن يكون (قالُوا) مجازا لأنّ اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل ، فأطلق القول وأريد لازمه ، وهو الاعتقاد به.
وقولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) قصر إضافي للردّ على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع ، ولمّا صرح فيه بلفظ مثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع ، ولا يقال : إنّ الظاهر أن يقولوا إنّما الربا مثل البيع لأنّه هو الذي قصد إلحاقه به ، كما في سؤال الكشاف وبنى عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة ؛ لأنّا نقول : ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع ، فهما في الخطور بأذهانهم سواء ، غير أنّهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيع حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا ، أو أنّهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضا بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسمّاة في الأصول بقياس العكس (١) ؛ لأنّ قياس العكس إنّما يلتجأ إليه عند كفاح المناظرة ؛ لا في وقت استنباط المجتهد في خاصّة نفسه.
وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله.
وقوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين ، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنّهم قالوا ذلك كفرا ونفاقا فليسوا ممّن تشملهم أحكام الإسلام. وهو إقناع للمسلمين بأنّ ما قاله الكفار هو شبهة محضة ، وأنّ الله العليم قد حرّم هذا وأباح ذلك ، وما ذلك إلّا لحكمة وفروق معتبرة لو تدبّرها أهل التدبّر لأدركوا الفرق بين البيع والربا ، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو ممّا وكله الله تعالى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين ، مع أنّ ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومئ إلى كشف الشبهة.
__________________
(١) هو الاستدلال بحكم الفرع على حكم الأصل لقصد إبطال مذهب المستدل عليه ويقابله قياس الطرد وهو الاستدلال بحكم الأصل على حكم الفرع لإثبات حكم الفرع في نفس الأمر. مثال الأول أن تقول : النبيذ مثل الخمر في الإسكار ، فلو كان النبيذ حلالا لكانت الخمر حلالا وهو باطل. ومثال الثاني أن تقول : النبيذ مسكر فهو حرام كالخمر.