واعلم أنّ مبنى شبهة القائلين (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أنّ التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض ، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجّل ، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلا على أنّه يرجعها له أحد عشر درهما ، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه ؛ لأنّ المقرض تصدّى لإقراضه وأعدّ ماله لأجله ، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله.
وكشف هاته الشبهة قد تصدّى له القفال فقال : «من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين ، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضا للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئا بدون عوض ، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض. ولا يقال إنّ الزائد عوض الإمهال لأنّ الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة». ومرجع هذه التفرقة إلى أنّها مجرّد اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة.
وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريرا ، حاصلها أنّ الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكّن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به ، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرّواج والربح ، وأما الذي دفع درهما لأجل السلف فإنّه لم يحصّل منفعة أكثر من مقدار المال الذي أخذه ، ولا يقال : إنّه يستطيع أن يتّجر به فيربح لأنّ هذه منفعة موهومة غير محقّقة الحصول ، مع أنّ أخذ الزائد أمر محقّق على كل تقدير.
وهذه التفرقة أقرب من تفرقة القفال ، لكنّها يردّ عليها أنّ انتفاع المقترض بالمال فيه سدّ حاجاته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة ، وأما تصدّيه للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها.
فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أنّ مرجعها إلى التعليل بالمظنّة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري ، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنّهم كانوا يعدّون التداين همّا وكربا ، وقد استعاذ منه النبي صلىاللهعليهوسلم ، وحال التاجر حال التفضّل. وكذلك اختلاف حالي المسلف والبائع ، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقا ؛ لأنّ المتسلّف مظنّة الحاجة ، ألا تراه ليس بيده مال ، وحال بائع السلعة تجارة حال من تجشّم مشقّة لجلب ما يحتاجه المتفضّلون وإعداده