لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال. فالتجارة معاملة بين غنيّين : ألا ترى أنّ كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذ ما يحتاج إليه ، فالمتسلّف مظنّة الفقر ، والمشتري مظنّة الغنى ، فلذلك حرم الربا لأنّه استغلال لحاجة الفقير وأحلّ البيع لأنّه إعانة لطالب الحاجات. فتبيّن أنّ الإقراض من نوع المواساة والمعروف ، وأنّها مؤكّدة التعيّن على المواسي وجوبا أو ندبا ، وأيّا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجرا على عمل المعروف. فأما الذي يستقرض مالا ليتّجر به أو ليوسع تجارته فليس مظنّة الحاجة ، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين ، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوّع بمعروف. وكفى بهذا تفرقة بين الحالين.
وقد ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسبابا أربعة :
أولها أنّ فيه أخذ مال الغير بغير عوض ، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع ، وهو فرق غير وجيه.
الثاني أنّ في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاقّ الاشتغال في الاكتساب ؛ لأنّه إذا تعوّد صاحب المال أخذ الربا خفّ عنه اكتساب المعيشة ، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأنّ مصلحة العالم لا تنتظم إلّا بالتجارة والصناعة والعمارة.
الثالث أنّه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض.
الرابع أنّ الغالب في المقرض أن يكون غنيا ، وفي المستقرض أن يكون فقيرا ، فلو أبيح الربا لتمكّن الغني من أخذ مال الضعيف.
وقد أشرنا فيما مرّ في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) من سورة آل عمران [١٣٠].
هذا وقد تعرّضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا ؛ لأنّها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه.
و (أل) في كل من البيع والربا لتعريف الجنس ، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس محتاج إليهما فيها : أحدهما يسمّى بيعا والآخر يسمّى ربا. أولهما مباح معتبر كونه حاجيا للأمة ، وثانيهما محرّم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة. وظاهر تعريف الجنس أنّ الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليل سائر أفراده ، وأنّه حرم الربا بجنسه