أن قدم أمامه من الموعظة ما هيّأ النفوس إليه. فإن كان قوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] من كلام الذين قالوا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] فظاهر ، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد ، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود ، وما تقدم كلّه وصف لحال أهل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم.
وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأنّ تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب ؛ ولأن ترك الربا من جملتها. فهو كالأمر بطريق برهاني.
ومعنى (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا ، فهذا مقابل قوله : «فله ما سلف» ، فكان الذي سلف قبضه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأمورا بتركه.
قيل نزلت هذه الآية خطابا لثقيف ـ أهل الطائف ـ إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتّاب بن أسيد ـ الذي أولاه النبيصلىاللهعليهوسلم مكة بعد الفتح ـ بسبب أنّهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش ، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أنّ كل ربا لهم على الناس يأخذونه ، وكل ربا عليهم فهو موضوع ، وقبل منه رسول الله شرطهم ، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطابا لهم ـ وكانوا حديثي عهد بإسلام ـ فقالوا : لا يدي لنا (١) بحرب الله ورسوله.
فقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) معناه إن كنتم مؤمنين حقا ، فلا ينافي قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إذ معناه يا أيها الذين دخلوا في الإيمان ، واندفعت إشكالات عرضت.
وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا ، فاعلموا أنّ الحرب عادت جذعة ، فهذا كقوله : «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء». وتنكير حرب لقصد تعظيم أمرها ؛ ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضا عنها بمن ونسبت إلى الله ؛ لأنّها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد ، وإلى رسوله لأنّه المبلغ والمباشر ، وهذا هو الظاهر. فإذا صح ما ذكر في
__________________
(١) أي لا قدرة لنا. فاليدان مجاز في القدرة ؛ لأنهما آلتها ، وأصله : لا يدين لنا ، فعاملوا المجرور باللام معاملة المضاف إليه كما في قولهم : لا أبا له ، بإثبات ألف أبا ، قاله ابن الحاجب. وقال غيره : اللام مقحمة بين المضاف والمضاف إليه.