وقد سلكوا في تعليل المسألة مسلكين : مسلك يرجع إلى الجمع بين الحديثين ، وهو مسلك الشافعية ، ومسلك إعمال قاعدة ردّ الشهادة بتهمة الحرص على العمل بشهادته وأنّه ريبة.
وقوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) زيادة في التحذير. والإثم : الذنب والفجور.
والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنوايا. وأسد الإثم إلى القلب وإنّما الآثم الكاتم لأنّ القلب ـ أي حركات العقل ـ يسبّب ارتكاب الإثم : فإنّ كتمان الشهادة إصرار قلبي على معصية ، ومثله قوله تعالى : [الأعراف : ١١٦] وإنّما سحروا الناس بواسطة مرئيات وتخيّلات وقول الأعشى :
كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا |
|
وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق |
لأن الفرق ينشأ عن رؤية الأهوال.
وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تهديد ، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع ؛ لأنّ القادر لا يحول بينه وبين المؤاخذة إلّا الجهل فإذا كان عليما أقام قسطاس الجزاء.
(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))
(لِلَّهِ).
تعليل واستدلال على مضمون جملة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وعلى ما تقدم آنفا من نحو : (اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [آل عمران : ١٧٦] (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الممتحنة : ٣٠] (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة : ٢٣٤] فإذا كان ذلك تعريضا بالوعد والوعيد ، فقد جاء هذا الكلام تصريحا واستدلالا عليه ، فجملة (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) إلى آخرها هي محطّ التصريح ، وهي المقصود بالكلام ، وهي معطوفة على جملة (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) ـ إلى ـ (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٨٣] وجملة (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هي موقع الاستدلال ، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين ، أو علة لجملة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) باعتبار إرادة الوعيد والوعد ، فالمعنى : إنّكم عبيده فلا يفوته عملكم والجزاء عليه. وعلى هذا الوجه تكون جملة «وإن تبدوا ما في أنفسكم» معطوفة على جملة (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) عطف