بخلاف قوله تعالى في آية الصيام في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) [البقرة : ١٨٤] لأنه أريد هنالك بيان أن الصوم مع وجود الرخصة في الفطر أفضل من تركه أو أن الزيادة على إطعام مسكين أفضل من الاقتصار عليه كما سيأتي.
وتطوّع يطلق بمعنى فعل طاعة وتكلفها ، ويطلق مطاوع طوّعه أي جعله مطيعا فيدل على معنى التبرع غالبا لأن التبرع زائد في الطاعة. وعلى الوجهين فانتصاب (خَيْراً) على نزع الخافض أي تطوع بخير أو بتضمين (تَطَوَّعَ) معنى فعل أو أتى. ولما كانت الجملة تذييلا فليس فيها دلالة على أن السعي من التطوع أي من المندوبات لأنها لإفادة حكم كلي بعد ذكر تشريع عظيم ، على أن (تَطَوَّعَ) لا يتعين لكونه بمعنى تبرع بل يحتمل معنى أتى بطاعة أو تكلف طاعة.
وقرأ الجمهور : (وَمَنْ تَطَوَّعَ) بصيغة الماضي ، وقرأه حمزة والكسائي ويعقوب وخلف يطوع بصيغة المضارع وياء الغيبة وجزم العين.
و (مِنْ) هنا شرطية بدليل الفاء في جوابها. وقوله : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) دليل الجواب إذ التقدير ومن تطوع خيرا جوزي به لأن الله شاكر أي لا يضيع أجر محسن ، عليم لا يخفى عنه إحسانه ، وذكر الوصفين لأن ترك الثواب عن الإحسان لا يكون إلّا عن جحود للفضيلة أو جهل بها فلذلك نفيا بقوله : (شاكِرٌ عَلِيمٌ) والأظهر عندي أن (شاكِرٌ) هنا استعارة تمثيلية شبه شأن الله في جزاء العبد على الطاعة بحال الشاكر لمن أسدي إليه نعمة ، وفائدة هذا التشبيه تمثيل تعجيل الثواب وتحقيقه لأن حال المحسن إليه أن يبادر بشكر المحسن.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠))
عود بالكلام إلى مهيعه الذي فصل عنه بما اعترض من شرع السعي بين الصفا والمروة كما علمته آنفا.
قال المفسرون إن هاته الآية نزلت في علماء اليهود في كتمهم دلائل صدق النبي محمدصلىاللهعليهوسلم وصفاته وصفات دينه الموجودة في التوراة وفي كتمهم آية الرجم ، وهو يقتضي