الْمُشْرِكِينَ (٦٧))
نتيجة للاستدلال إذ قد تحصحص من الحجّة الماضية أنّ اليهودية والنصرانية غير الحنيفية ، وأنّ موسى وعيسى ، عليهماالسلام ، لم يخبرا بأنهما على الحنيفية ، فأنتج أنّ إبراهيم لم يكن على حال اليهودية أو النصرانية ؛ إذ لم يؤثر ذلك عن موسى ولا عيسى ، عليهماالسلام ، فهذا سنده خلوّ كتبهم عن ادّعاء ذلك. وكيف تكون اليهودية أو النصرانية من الحنيفية مع خلوّها عن فريضة الحج ، وقد جاء الإسلام بذكر فرضه لمن تمكن منه ، ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن عطية في تفسير قوله تعالى في هذه السورة : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٦] عن عكرمة قال : «لما نزلت الآية قال أهل الملل : «قد أسلمنا قبلك ، ونحن المسلمون» فقال الله له : فحجهم يا محمد وأنزل الله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] الآية فحجّ المسلمون وقعد الكفار». ثمّ تمم الله ذلك بقوله : وما كان من المشركين ، فأبطلت دعاوى الفرق الثلاث.
والحنيف تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) في سورة البقرة [١٣٥].
وقوله : (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أفاد الاستدراك بعد نفي الضدّ حصرا لحال إبراهيم فيما يوافق أصول الإسلام ، ولذلك بيّن حنيفا بقوله : (مُسْلِماً) لأنهم يعرفون معنى الحنيفية ولا يؤمنون بالإسلام ، فأعلمهم أنّ الإسلام هو الحنيفية ، وقال : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فنفى عن إبراهيم موافقة اليهودية ،. وموافقة النصرانية ، وموافقة المشركين ، وإنه كان مسلما ، فثبتت موافقته الإسلام ، وقد تقدم ـ في سورة البقرة [١٣٥] في مواضع أنّ إبراهيم سأل أن يكون مسلما ، وأنّ الله أمره أن يكون مسلما ، وأنه كان حنيفا ، وأنّ الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم هو الذي كان جاء به إبراهيم (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وكلّ ذلك لا يبقي شكا في أنّ الإسلام هو إسلام إبراهيم.
وقد بينت آنفا عند قوله تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [آل عمران : ٢٠] الأصول الداخلة تحت معنى (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) فلنفرضها في معنى قول إبراهيم : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩] فقد جاء إبراهيم بالتوحيد ، وأعلنه إعلانا لم يترك للشرك مسلكا إلى نفوس الغافلين ، وأقام هيكلا وهو الكعبة ، أول بيت وضع للناس ، ـ وفرض حجّه على الناس : ارتباطا بمغزاه ، وأعلن تمام العبودية لله