أطلق المحكم في هذه الآية على واضح الدلالة على سبيل الاستعارة لأنّ في وضوح الدلالة ، منعا لتطرّق الاحتمالات الموجبة للتردّد في المراد.
وأطلق التشابه هنا على خفاء الدلالة على المعنى ، على طريقة الاستعارة لأنّ تطرّق الاحتمال في معاني الكلام يفضي إلى عدم تعيّن أحد الاحتمالات ، وذلك مثل تشابه الذوات في عدم تمييز بعضها عن بعض.
وقوله : (أُمُّ الْكِتابِ) أمّ الشيء أصله وما ينضمّ إليه كثيره وتتفرّع عنه فروعه ، ومنه سمّيت خريطة الرأس ، الجامعة له : أمّ الرأس وهي الدماغ ، وسمّيت الراية الأمّ لأنّ الجيش ينضوي إليها ، وسمّيت المدينة العظيمة أمّ القرى ، وأصل ذلك أنّ الأمّ حقيقة في الوالدة ، وهي أصل للمولود وجامع للأولاد في الحضانة ، فباعتبار هذين المعنيين ، أطلق اسم الأمّ على ما ذكرنا ، على وجه التشبيه البليغ. ثم شاع ذلك الإطلاق حتى ساوى الحقيقة ، وتقدّم ذلك في تسمية الفاتحة أمّ القرآن.
والكتاب : القرآن لا محالة ؛ لأنّه المتحدّث عنه بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) فليس قوله : (أُمُّ الْكِتابِ) هنا بمثل قوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩].
وقوله : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) المتشابهات المتماثلات ، والتماثل يكون في صفات كثيرة فيبين بما يدل على وجه التماثل ، وقد يترك بيانه إذا كان وجه التماثل ظاهرا ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) [البقرة : ٧٠] ولم يذكر في هذه الآية جهة التشابه.
وقد أشارت الآية : إلى أنّ الآيات القرآن صنفان : محكمات وأضدادها ، التي سميت متشابهات ، ثم بيّن أنّ المحكمات هي أمّ الكتاب ، فعلمنا أنّ المتشابهات هي أضداد المحكمات ، ثم أعقب ذلك بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران : ٧] أي تأويله الذي لا قبل لأمثالهم به فعلمنا أنّ المتشابهات هي التي لم يتّضح المقصود من معانيها ، فعلمنا أنّ صفة المحكمات ، والمتشابهات ، راجعة إلى ألفاظ الآيات.
ووصف المحكمات بأنّها أمّ الكتاب فاحتمل أن يكون المراد من الأمّ الأصل ، أو المرجع ، وهما متقاربان : أي هنّ أصل القرآن أو مرجعه ، وليس يناسب هذين المعنيين إلّا دلالة القرآن ؛ إذ القرآن أنزل للإرشاد والهدي ، فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع والآداب والمواعظ ، وكانت أصولا لذلك : باتّضاح دلالتها ، بحيث تدل على