الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علّة التفرّق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارناتها ، وفي عكسه قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [البقرة:٢٨٢].
وفيه إشارة إلى أنّ الاختلاف المذموم والّذي يؤدّي إلى الافتراق ، وهو الاختلاف في أصول الدّيانة الّذي يفضي إلى تكفير بعض الأمّة بعضا ، أو تفسيقه ، دون الاختلاف في الفروع المبنيّة على اختلاف مصالح الأمّة في الأقطار والأعصار ، وهو المعبّر عنه بالاجتهاد. ونحن إذا تقصّينا تاريخ المذاهب الإسلاميّة لا نجد افتراقا نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول ، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشّريعة.
والبيّنات : الدلائل الّتي فيها عصمة من الوقوع في الاختلاف لو قيضت لها أفهام.
وقوله : (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) مقابل قوله في الفريق الآخر : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فالقول فيه كالقول في نظيره ، وهذا جزاء لهم على التفرّق والاختلاف وعلى تفريطهم في تجنّب أسبابه.
[١٠٦ ، ١٠٧] (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧))
يجوز أن يكون (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) منصوبا على الظرف ، متعلّقا بما في قوله (لَهُمْ عَذابٌ) من معنى كائن أو مستقرّ : أي يكون عذاب لهم يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه ، وهذا هو الجاري على أكثر الاستعمال في إضافة أسماء الزمان إلى الجمل. ويجوز أن يكون منصوبا على المفعول به لفعل اذكر محذوفا ، وتكون جملة (تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) صفة ل (يوم) على تقدير : تبيضّ فيه وجوه وتسودّ فيه وجوه.
وفي تعريف هذا اليوم بحصول بياض وجوه وسواد وجوه فيه ، تهويل لأمره ، وتشويق لما يرد بعده من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضّة ، والوجوه المسودّة : ترهيبا لفريق وترغيبا لفريق آخر. والأظهر أن علم السامعين بوقوع تبييض وجوه وتسويد وجوه في ذلك اليوم حاصل من قبل : في الآيات النازلة قبل هذه الآية ، مثل قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠] وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ* تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) [عبس : ٣٨ ـ ٤١].