وقوله (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) احتراس أي يولوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرّفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة ، أو متأمّلين في الأمر. وفي العدول عن جعله معطوفا على جملة الجواب إلى جعله معطوفا على جملتي الشرط وجزائه معا ، إشارة إلى أنّ هذا ديدنهم وهجيراهم. لو قاتلوكم ، وكذلك في قتالهم غيركم.
وثمّ لترتيب الإخبار دالّة على تراخي الرتبة. ومعنى تراخي الرتبة كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام. وهو غير التّراخي المجازي ، لأن التّراخي المجازي أن يشبّه ما ليس بمتأخّر عن المعطوف بالمتأخّر عنه.
وهذا كلّه وعيد لهم بأنهم سيقاتلون المسلمين ، وأنّهم ينهزمون ، وإغراء للمسلمين بقتالهم.
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ).
يعود ضمير (عليهم) إلى (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) [آل عمران : ١١٠] وهو خاص باليهود لا محالة ، وهو كالبيان لقوله (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ).
والجملة بيانيّة لذكر حال شديد من شقائهم في الدنيا.
ومعنى ضرب الذلّة اتّصالها بهم وإحاطتها ، ففيه استعارة مكنية وتبعية شبّهت الذلّة ، وهي أمر معقول ، بقية أو خيمة شملتهم وشبّه اتّصالها وثباتها بضرب القبة وشدّ أطنابها ، وقد تقدّم نظيره في البقرة.
و (ثُقِفُوا) في الأصل أخذوا في الحرب (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) [الأنفال : ٥٧] وهذه المادة تدلّ على تمكّن من أخذ الشيء ، وتصرّف فيه بشدّة ، ومنها سمي الأسر ثقافا ، والثقاف آلة كالكلّوب تكسر به أنابيب قنا الرّماح. قال النابغة :
عضّ الثّقاف على صمّ الأنابيب
والمعنى هنا : أينما عثر عليهم ، أو أينما وجدوا ، أي هم لا يوجدون إلا محكومين ،