رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] ولا ما صرّح فيه بجهل وقته كقوله : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧].
وليس من المتشابه ما دلّ على معنى يعارض الحمل عليه دليل آخر ، منفصل عنه ؛ لأنّ ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين ، أو ترجيح أحدهما على الآخر ، مثل قوله تعالى خطابا لإبليس : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) الآية في سورة الإسراء [٦٤] مع ما في الآيات المقتضية (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] إنه لا يحبّ الفساد.
وقد علمتم من هذا أنّ ملاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة : إمّا لضيقها عن المعاني ، وإمّا لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى ، وإمّا لتناسي بعض اللغة ، فيتبيّن لك أنّ الإحكام والتشابه : صفتان للألفاظ ، باعتبار فهم المعاني.
وإنّما أخبر عن ضمير آيات محكمات ، وهو ضمير جمع ، باسم مفرد ليس دالا على أجزاء وهو (أُمُ) لأنّ المراد أنّ صنف الآيات المحكمات يتنزّل من الكتاب منزلة أمّه أي أصله ومرجعه الذي يرجّع إليه في فهم الكتاب ومقاصده. والمعنى : هنّ كأمّ للكتاب. ويعلم منه أنّ كل آية من المحكمات أم للكتاب في ما تتضمّنه من المعنى. وهذا كقول النابغة يذكر بني أسد :
فهم درعي التي استلأمت فيها
أي مجموعهم كالدّرع لي ، ويعلم منه أنّ كلّ أحد من بني أسد بمنزلة حلقة من حلق الدرع. ومن هذا المعنى قوله تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٤].
والكلام على (أخر) تقدّم عند قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤].
(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ).
تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق ؛ لأنّه لما قسّم الكتاب إلى محكم ومتشابه ، وكان ذلك التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني ، تشوّفت النفس إلى معرفة تلقّي الناس للمتشابه. أمّا المحكم فتلقّي الناس له على طريقة واحدة ، فلا حاجة إلى تفصيل فيه ، واقتصر في التفصيل على ذكر قسم من أقسامه : وهو حال الذين في قلوبهم زيغ كيف تلقّيهم للمتشابهات ؛ لأنّ بيان هذا هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام ، وهو كشف شبهة الذين غرّتهم المتشابهات ولم يهتدوا إلى حقّ تأويلها ، ويعرف حال قسيمهم وهم