فإن كان الأوّل فالحال واردة لحكاية الواقع فلا تفيد مفهوما : لأنّ شرط استفادة المفهوم من القيود أن لا يكون القيد الملفوظ به جرى لحكاية الواقع ، وإن كان الثّاني فالحال واردة لقصد التشنيع وإراءة هذه العاقبة الفاسدة. وإذ قد كان غالب المدينين تستمرّ حاجتهم آجالا طويلة ، كان الوقوع في هذه العاقبة مطردا ، وحينئذ فالحال لا تفيد مفهوما كذلك إذ ليس القصد منها التقييد بل التشنيع ، فلا يقتصر التّحريم بهذه الآية على الربا البالغ أضعافا كثيرة ، حتّى يقول قائل : إذا كان الرّبا أقلّ من ضعف رأس المال فليس بمحرّم. فليس هذا الحال هو مصبّ النّهي عن أكل الربا حتّى يتوهّم متوهّم أنّه إن كان دون الضعف لم يكن حراما. ويظهر أنّها أوّل آية نزلت في تحريم الربا ، وجاءت بعدها آية البقرة ، لأن صيغة هذه الآية تناسب ابتداء التشريع ، وصيغة آية البقرة تدلّ على أن الحكم قد تقرّر ، ولذلك ذكر في تلك الآية عذاب المستمرّ على أكل الرّبا. وذكر غرور من ظنّ الرّبا مثل البيع ، وقيل فيها (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) [البقرة : ٢٧٥] الآية ، كما ذكرناه آنفا ، فمفهوم القيد معطّل على كلّ حال.
وحكمة تحريم الرّبا هي قصد الشّريعة حمل الأمّة على مواساة غنيّها محتاجها احتياجا عارضا موقّتا بالقرض ، فهو مرتبة دون الصدقة ، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة ، ومنها ندب كالصّدقة والسلف ، فإن انتدب لها المكلّف حرّم عليه طلب عوض عنها ، وكذلك المعروف كلّه ، وذلك أن العادة الماضية في الأمم ، وخاصّة العرب ، أنّ المرء لا يتداين إلّا لضرورة حياته ، فلذلك كان حقّ الأمّة مواساته. والمواساة يظهر أنّها فرض كفاية على القادرين عليها ، فهو غير الّذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعين والمتقارضين : للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين إلّا أن الشرع ميّز هاته الواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية ، لا باختلاف أحوال المتعاقدين ، فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الرّبا في السلف ، ولو كان المستسلف غير محتاج ، بل كان طالب سعة وإثراء بتحريك المال الّذي يتسلّفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك ، وسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتّجارة ودين السّلم ، ولو كان الرّبح في ذلك أكثر من مقدار الرّبا تفرقة بين المواهي الشرعية.
ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الرّبا البعد بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال ، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شئون الدنيا ، فيكون تحريم الرّبا ، ولو كان قليلا ، مع تجويز الربح من التّجارة والشركات ، ولو كان كثيرا تحقيقا لهذا