وأجاب عنه بأنّ الكناية في النفي بنيت على الكناية في الإثبات ، وهو تكلّف ، إذ شأن التراكيب استقلالها في مفادها ولوازمها.
وعقّب هذا النفي بقوله : (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) معطوفا بواو المعية فهو في معنى المفعول معه ، لتنتظم القيود بعضها مع بعض ، فيصير المعنى : أتحسبون أن تدخلوا الجنّة في حال انتفاء علم الله بجهادكم مع انتفاء علمه بصبركم ، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يجتمع العلمان. والجهاد يستدعي الصّبر ، لأنّ الصّبر هو سبب النّجاح في الجهاد ، وجالب الانتصار ، وقد سئل عليّ عن الشّجاعة ، فقال : صبر ساعة. وقال زفر بن الحارث الكلابي ، يعتذر عن انتصار أعدائهم عليهم.
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها |
|
ولكنّهم كانوا على الموت أصبرا |
وقد تسبّب في هزيمة المسلمين يوم أحد ضعف صبر الرماة ، وخفّتهم إلى الغنيمة ، وفي الجهاد يتطلّب صبر المغلوب على الغلب حتّى لا يهن ولا يستسلم.
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣))
كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز ، ليكون جامعا بين الموعظة ، والمعذرة ، والملام ، والواو عاطفة أو حالية.
والخطاب للأحياء ، لا محالة ، الّذين لم يذوقوا الموت ، ولم ينالوا الشهادة ، والّذين كان حظّهم في ذلك اليوم هو الهزيمة ، فقوله : (كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أريد به تمنّي لقاء العدوّ يوم أحد ، وعدم رضاهم بأن يتحصّنوا بالمدينة ، ويقفوا موقف الدّفاع ، كما أشار به الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولكنّهم أظهروا الشجاعة وحبّ اللّقاء ، ولو كان فيه الموت ، نظرا لقوة العدوّ وكثرته ، فالتمنّي هو تمنّي اللّقاء ونصر الدّين بأقصى جهدهم ، ولمّا كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كلّ واحد منهم بتلف نفسه في الدّفاع ، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدوّ ، وهيّأ النّصر لمن بقي بعده ، جعل تمنّيهم اللّقاء كأنّه تمنّي الموت من أوّل الأمر ، تنزيلا لغاية التمنّي منزلة مبدئه.
وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) تعريض بأنّهم تمنّوا أمرا مع الإغضاء عن شدّته عليهم ، فتمنّيهم إيّاه كتمنّي شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب.