والتنديم إن كان قوله : (فَأَثابَكُمْ) تهكّما أو المعنى فأثابكم الرسول غمّا لكيلا تحزنوا على ما فاتكم : أي سكت عن تثريبكم ، ولم يظهر لكم إلّا الاغتمام لأجلكم ، لكيلا يذكّركم بالتثريب حزنا على ما فاتكم ، فأعرض عن ذكره جبرا لخواطركم. وقيل : المعنى أصابكم بالغمّ الّذي نشأ عن الهزيمة لتعتادوا نزول المصائب ، فيذهب عنكم الهلع والجزع عند النوائب.
وفي الجمع بين (ما فاتَكُمْ) و (ما أَصابَكُمْ) طباق يؤذن بطباق آخر مقدّر ، لأنّ ما فات هو النافع وما أصاب هو من الضّار.
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤))
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ).
الضمير في قوله : (ثُمَّ أَنْزَلَ) ضمير اسم الجلالة ، وهو يرجّح كون الضمير (فَأَثابَكُمْ) مثله لئلا يكون هذا رجوعا إلى سياق الضمائر المتقدّمة من قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) والمعنى ثمّ أغشاكم بالنعاس بعد الهزيمة. وسمّي الإغشاء إنزالا لأنّه لمّا كان نعاسا مقدّرا من الله لحكمة خاصّة ، كان كالنازل من العوالم المشرّفة كما يقال : نزلت السكينة.
والأمنة ـ بفتح الميم ـ الأمن ، والنعاس : النوم الخفيف أو أوّل النّوم ، وهو يزيل التعب ولا يغيّب صاحبه ، فلذلك كان أمنة إذ لو ناموا نوما ثقيلا لأخذوا ، قال أبو طلحة الأنصاري ، والزبير ، وأنس بن مالك : غشينا نعاس حتّى أنّ السيف ليسقط من يد أحدنا.
وقد استجدّوا بذلك نشاطهم ، ونسوا حزنهم ، لأنّ الحزن تبتدئ خفّته بعد أوّل نومة تعفيه ، كما هو مشاهد في أحزان الموت وغيرها. و (نعاسا) بدل على (أمنة) بدل مطابق.
وكان مقتضى الظاهر أن يقدّم النعاس ويؤخّر أمنة : لأنّ أمنة بمنزلة الصفة أو المفعول لأجله فحقّه التقديم على المفعول كما جاء في آية الأنفال [١١] : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً