الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة. وذكر الفخر حججا أخر غير مستقيمة.
ولا يخفى أنّ أهل القول الأول لا يثبتون متشابها غير ما خفي المراد منه ، وأنّ خفاء المراد متفاوت ، وأنّ أهل القول الثاني يثبتون متشابها استأثر الله بعلمه ، وهو أيضا متفاوت ؛ لأنّ منه ما يقبل تأويلات قريبة ، وهو ممّا ينبغي ألّا يعدّ من المتشابه في اصطلاحهم ، لكنّ صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سهل تأويلها مثل (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] دلّ على أنّهم يسدّون باب التأويل في المتشابه ، قال الشيخ ابن عطية «إنّ تأويل ما يمكن تأويله لا يعلم تأويله ـ على الاستيفاء ـ إلّا الله تعالى فمن قال ، من العلماء الحذّاق : بأنّ الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه ، فإنّما أراد هذا النوع ، وخافوا أن يظنّ أحد أنّ الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال».
وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابها : من آيات القرآن ، ومن صحاح الأخبار ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
فكان رأي فريق منهم الإيمان بها ، على إبهامها وإجمالها ، وتفويض العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى ، وهذه طريقة سلف علمائنا ، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلّمين ، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم ، ويعبّر عنها بطريقة السلف ، ويقولون : طريقة السلف أسلم ، أي أشدّ سلامة لهم من أن يتأوّلوا تأويلات لا يدرى مدى ما تفضي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتّسق مع ما شرعه للناس من الشرائع ، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم ، وانصرافهم عن التعمّق في طلب التأويل.
وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعان من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز ، واستعارة ، وتمثيل ، مع وجود الدّاعي إلى التأويل ، وهو تعطّش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلّة القرآن والسنة ، ويعبّر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف ، ويقولون : طريقة الخلف أعم ، أي أنسب بقواعد العلم وأقوى في تحصيل العلم القاطع لجدال الملحدين ، والمقنع لمن يتطلّبون الحقائق من المتعلّمين ، وقد يصفونها بأنّها أحكم أي أشدّ إحكاما ؛ لأنّها تقنع أصحاب الأغراض كلّهم. وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسّرين وعلماء الأصول ، ولم أقف على تعيين أوّل من صدرا