يظنّ أنّه بعيد عن أن يعقبه الحشر ، مع ما فيه من التفنّن ، ومن ردّ العجز على الصدر وجعل القتل مبدأ الكلام وعوده.
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩))
الفاء للتفريع على ما اشتمل عليه الكلام السابق الّذي حكي فيه مخالفة طوائف لأمر الرسول من مؤمنين ومنافقين ، وما حكي من عفو الله عنهم فيما صنعوا. ولأنّ في تلك الواقعة المحكية بالآيات السابقة مظاهر كثيرة من لين النّبيء صلىاللهعليهوسلم للمسلمين ، حيث استشارهم في الخروج ، وحيث لم يثرّبهم على ما صنعوا من مغادرة مراكزهم ، ولمّا كان عفو الله عنهم يعرف في معاملة الرّسول إيّاهم ، ألان الله لهم الرسول تحقيقا لرحمته وعفوه ، فكان المعنى : ولقد عفا الله عنهم برحمته فلان لهم الرسول بإذن الله وتكوينه إيّاه راحما ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧].
والباء للمصاحبة ، أي لنت مع رحمة الله : إذ كان لينه في ذلك كلّه لينا لا تفريط معه لشيء من مصالحهم ، ولا مجاراة لهم في التساهل في أمر الدّين ، فلذلك كان حقيقا باسم الرحمة.
وتقديم المجرور مفيد للحصر الإضافي ، أي : برحمة من الله لا بغير ذلك من أحوالهم ، وهذا القصر مفيد التعريض بأنّ أحوالهم كانت مستوجبة الغلظ عليهم ، ولكن الله ألان خلق رسوله رحمة بهم ، لحكمة علمها الله في سياسة هذه الأمّة.
وزيدت (ما) بعد باء الجرّ لتأكيد الجملة بما فيه من القصر ، فتعيّن بزيادتها كون التّقديم للحصر ، لا لمجرد الاهتمام ، ونبّه عليه في «الكشاف».
واللين هنا مجاز في سعة الخلق مع أمّة الدعوة والمسلمين ، وفي الصفح عن جفاء المشركين ، وإقالة العثرات. ودلّ فعل المضيّ في قوله : (لِنْتَ) على أنّ ذلك وصف تقرّر وعرف من خلقه ، وأنّ فطرته على ذلك برحمة من الله إذ خلقه كذلك و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ، فخلق الرسول مناسب لتحقيق حصول مراد الله تعالى من إرساله ، لأنّ الرسول يجيء بشريعة يبلّغها عن الله تعالى ، فالتبليغ متعيّن لا مصانعة فيه ، ولا يتأثّر بخلق الرسول ، وهو أيضا مأمور بسياسة أمّته بتلك الشريعة ، وتنفيذها فيهم ،