ومعنى (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) المماثلة لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سببا لقوّة التواصل ، وهي هنا النسب ، واللغة ، والوطن. والعرب تقول : فلان من بني فلان من أنفسهم ، أي من صميمهم ليس انتسابه إليهم بولاء أو لصق ، وكأنّه هذا وجه إطلاق النفس عليه التي هي في معنى المماثلة ، فكونه من أهل نسبهم أي كونه عربيا يوجب أنسهم به والركون إليه وعدم الاستيحاش منه ، وكونه يتكلّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به ، وكونه جارا لهم وربيّا فيهم يعجّل لهم التصديق برسالته ، إذ يكونون قد خبروا أمره ، وعلموا فضله ، وشاهدوا استقامته ومعجزاته. وعن النقاش : قيل ليس في العرب قبيلة إلا ولها ولادة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إلّا تغلب ، وبذلك فسّر : «قل لا أسألكم عليه أجرا إلّا المودّة في القربى».
وهذه المنّة خاصّة بالعرب ومزيّة لهم ، زيادة على المنّة ببعثة محمد على جميع البشر ، فالعرب وهم الذين تلقّوا الدعوة قبل الناس كلّهم ، لأنّ الله أراد ظهور الدين بينهم ليتلقّوه التلقّي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم وسرعة فهمهم لدقائق اللغة ، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر ، فيكونوا أعوانا على عموم الدعوة ، ولمن تخلّق بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزيّة وهو معظمها ، إذ لم يفته منها إلا النسب والموطن وما هما إلا مكمّلان لحسن التلقّي ، ولذلك كان المؤمنون مدّة حياة رسول الله صلىاللهعليهوسلم من العرب خاصّة بحيث إنّ تلقّيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقرّ الدين. وقد روى عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّه قال : «من دخل في الإسلام فهو من العرب».
وقوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي يقرأ عليهم القرآن ، وسمّيت جمل القرآن آيات لأنّ كلّ واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى ، كما تقدّم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، فكانوا صالحين لفهم ما يتلى عليهم من غير حاجة لترجمان.
والتزكية : التطهير ، أي يطهر النفوس بهدي الإسلام.
وتعليم الكتاب هو تبيين مقاصد القرآن وأمرهم بحفظ ألفاظه ، لتكون معانيه حاضرة عندهم.
والمراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام لأنّ ذلك كلّه مانع للأنفس من سوء الحال واختلال النظام ، وذلك من معنى الحكمة ، وتقدّم