(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))
دعاء علّمه النبي صلىاللهعليهوسلم ، تعليما للأمة : لأنّ الموقع المحكي موقع عبرة ومثار لهواجس الخوف من سوء المصير إلى حال الذين في قلوبهم زيغ فما هم إلّا من عقلاء البشر ، لا تفاوت بينهم وبين الرّاسخين في الإنسانية ، ولا في سلامة العقول والمشاعر ، فما كان ضلالهم إلّا عن حرمانهم التوفيق ، واللطف ، ووسائل الاهتداء.
وقد علم من تعقيب قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) [آل عمران : ٧] الآيات بقوله : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أنّ من جملة ما قصد بوصف الكتاب بأنّ منه محكما ومنه متشابها ، إيقاظ الأمة إلى ذلك لتكون على بصيرة في تدبّر كتابها : تحذيرا لها من الوقوع في الضلال ، الذي أوقع الأمم في كثير منه وجود المتشابهات في كتبها ، وتحذيرا للمسلمين من اتّباع البوارق الباطلة مثل ما وقع فيه بعض العرب من الردّة والعصيان ، بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، لتوهّم أنّ التديّن بالدين إنّما كان لأجل وجود الرسول بينهم ، ولذلك كان أبو بكر يدعو بهذه الآية في صلاته مدة ارتداد من ارتد من العرب ، ففي «الموطأ» ، عن الصّنابحي : أنّه قال : «قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب فقام في الثالثة فدنوت منه حتى إنّ ثيابي لتكاد تمسّ ثيابه فسمعته يقرأ بأمّ القرآن وهذه الآية: (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) الآية.
فزيغ القلب يتسبّب عن عوارض تعرض للعقل : من خلل في ذاته ، أو دواع من الخلطة أو الشهوة ، أو ضعف الإرادة ، تحول بالنفس عن الفضائل المتحلّية بها إلى رذائل كانت تهجس بالنفس فتذودها النفس عنها بما استقرّ في النفس من تعاليم الخير المسمّاة بالهدى ، ولا يدري المؤمن ، ولا العاقل ، ولا الحكيم ، ولا المهذّب : أيّة ساعة تحلّ فيها به أسباب الشقاء ، وكذلك لا يدري الشقي ، ولا المنهمك ، الأفن : أيّة ساعة تحفّ فيها به أسباب الإقلاع عمّا هو متلبّس به من تغيّر خلق ، أو خلق ، أو تبدل خليط ، قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) [الأنعام : ١١٠] ولذا كان دأب القرآن قرن الثناء بالتحذير ، والبشارة بالإنذار.
وقوله : (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) تحقيق للدعوة على سبيل التلطّف ؛ إذ أسندوا الهدي إلى الله تعالى ، فكان ذلك كرما منه ، ولا يرجع الكريم في عطيته ، وقد استعاذ النبيصلىاللهعليهوسلم من