والمراد ب (خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هنا : إمّا آثار خلقها ، وهو النظام الذي جعل فيها ، وإمّا أن يراد بالخلق المخلوقات كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١]. وأولو الألباب أهل العقول الكاملة لأنّ لبّ الشيء هو خلاصته. وقد قدّمنا في سورة البقرة بيان ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من الآيات عند قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ) [البقرة : ١٦٤] إلخ.
و (يَذْكُرُونَ اللهَ) إمّا من الذّكر اللساني وإمّا من الذّكر القلبي وهو التفكّر ، وأراد بقوله : (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) عموم الأحوال كقولهم : ضربه الظهر والبطن ، وقولهم : اشتهر كذا عند أهل الشرق والغرب ، على أنّ هذه الأحوال هي متعارف أحوال البشر في السلامة ، أي أحوال الشغل والراحة وقصد النوم. وقيل : أراد أحوال المصلّين : من قادر ، وعاجز ، وشديد العجز. وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى.
وقوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عطف مرادف إن كان المراد بالذكر فيما سبق التفكّر ، وإعادته لأجل اختلاف المتفكّر فيه ، أو هو عطف مغاير إذا كان المراد من قوله : (يَذْكُرُونَ) ذكر اللسان. والتفكّر عبادة عظيمة. روى ابن القاسم عن مالك رحمهالله في جامع العتبية قال : قيل لأمّ الدرداء : ما كان شأن أبي الدرداء؟ قالت : كان أكثر شأنه التفكّر ، قيل له : أترى التفكّر عملا من الأعمال؟ قال : نعم ، هو اليقين.
والخلق بمعنى كيفية أثر الخلق ، أو المخلوقات التي في السماء والأرض ، فالإضافة إمّا على معنى اللام ، وإمّا على معنى (في).
وقوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) وما بعده جملة واقعة موقع الحال على تقدير قول : أي يتفكّرون قائلين : ربّنا إلخ لأنّ هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء.
فإن قلت : كيف تواطأ الجمع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكّر مع اختلاف تفكيرهم وتأثّرهم ومقاصدهم. قلت : يحتمل أنّهم تلقّوه من رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فكانوا يلازمونه عند التفكّر وعقبه ، ويحتمل أنّ الله ألهمهم إيّاه فصار هجيراهم مثل قوله تعالى : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا) [البقرة : ٢٨٥] الآيات. ويدلّ لذلك حديث ابن عباس في «الصحيح» قال : «بتّ عند خالتي ميمونة فقام رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران» إلى آخر الحديث.