وقوله : «كذبوا» بيان لدأبهم ، استئناف بياني. وتخصيص آل فرعون بالذكر ـ من بين بقية الأمم ـ لأنّ هلكهم معلوم عند أهل الكتاب ، بخلاف هلك عاد وثمود فهو عند العرب أشهر ؛ ولأنّ تحدّي موسى إياهم كان بآيات عظيمة فما أغنتهم شيئا تجاه ضلالهم ؛ ولأنّهم كانوا أقرب الأمم عهدا بزمان النبي صلىاللهعليهوسلم فهو كقول شعيب : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩] وكقول الله تعالى للمشركين : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) [الحجر : ٧٦] وقوله : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) [الحجر : ٧٩] وقوله : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨].
[١٢ ، ١٣] (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))
استئناف ابتدائي ، للانتقال من النذارة إلى التهديد ، ومن ضرب المثل لهم بأحوال سلفهم في الكفر ، إلى ضرب المثل لهم بسابق أحوالهم المؤذنة بأنّ أمرهم صائر إلى زوال ، وأنّ أمر الإسلام ستندكّ له صمّ الجبال. وجيء في هذا التهديد بأطنب عبارة وأبلغها ؛ لأنّ المقام مقام إطناب لمزيد الموعظة ، والتذكير بوصف يوم كان عليهم ، يعلمونه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٣٩] يحتمل أنّ المراد بهم المذكورون في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) [آل عمران : ١١٦] فيجيء فيه ما تقدّم والعدول عن ضمير (هم) إلى الاسم الظاهر لاستقلال هذه النذارة.
والظاهر أنّ المراد بهم المشركون خاصّة ، ولذلك أعيد الاسم الظاهر ، ولم يؤت بالضمير بقرينة قوله بعده : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) إلى قوله (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) وذلك ممّا شاهده المشركون يوم بدر.
وقد قيل : أريد بالذين كفروا خصوص اليهود ، وذكروا لذلك سببا رواه الواحدي ، في أسباب النزول : أنّ يهود يثرب كانوا عاهدوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى مدّة فلمّا أصاب المسلمين يوم أحد ما أصابهم من النكبة. نقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أبي سفيان بمكة وقالوا لهم : لتكوننّ كلمتنا واحدة ، فلمّا رجعوا إلى المدينة أنزلت هذه الآية.