والقيام هنا بمعنى المواظبة كقوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] وقوله : (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥] وتقول : الأمير قائم بمصالح الأمة ، كما تقول : ساهر عليها ، ومنه «إقام الصلاة» وقول أيمن بن خريم الأنصاري :
أقامت غزالة سوق الضّراب |
|
لأهل العراقين حولا قميطا |
وهو في الجميع تمثيل.
والقسط : العدل وهو مختصر من القسطاس ـ بضم القاف ـ روى البخاري عن مجاهد أنّه قال : القسطاس : العدل بالرومية وهذه الكلمة ثابتة في اللغات الرومية وهي من اللاطينية ، ويطلق القسط والقسطاس على الميزان ، لأنّه آلة للعدل قال تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) [الإسراء : ٣٥] وقال : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧]. وقد أقام الله القسط في تكوين العوالم على نظمها ، وفي تقدير بقاء الأنواع ، وإيداع أسباب المدافعة في نفوس الموجودات ، وفيما شرع للبشر من الشرائع في الاعتقاد والعمل : لدفع ظلم بعضهم بعضا ، وظلمهم أنفسهم ، فهو القائم بالعدل سبحانه ، وعدل الناس مقتبس من محاكاة عدله.
وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تمجيد وتصديق ، نشأ عن شهادة الموجودات كلّها له بذلك فهو تلقين الإقرار له بذلك على نحو قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] أي اقتداء بالله وملائكته ، على أنّه يفيد مع ذلك تأكيد الجملة السابقة ، ويمهّد لوصفه تعالى بالعزيز الحكيم.
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩))
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ).
قرأ جمهور القرّاء (إِنَّ الدِّينَ ـ بكسر همزة إنّ ـ فهو استئناف ابتدائي لبيان فضيلة هذا الدين بأجمع عبارة وأوجزها.
وهذا شروع في أول غرض أنزلت فيه هذه السورة : غرض محاجّة نصارى نجران ، فهذا الاستئناف من مناسبات افتتاح السورة بذكر تنزيل القرآن والتوراة والإنجيل ، ثم بتخصيص القرآن بالذكر وتفضيله بأنّ هديه يفوق هدي ما قبله من الكتب ، إذ هو الفرقان ،