وانتصب (بَغْياً) على أنّه مفعول لأجله ، وعامل المفعول لأجله : هو الفعل الذي تفرّغ للعمل فيما بعد حرف الاستثناء ، فالاستثناء كان من أزمان وعلل محذوفة والتقدير : ما اختلفوا إلّا في زمن بعد ما جاءهم العلم وما كان إلّا بغيا بينهم. ولك أن تجعل بغيا منصوبا على الحال من الذين أوتوا الكتاب ، وهو ـ وإن كان العامل فيه فعلا منفيا في اللفظ ـ إلّا أن الاستثناء المفرّغ جعله في قوة المثبت ، فجاء الحال منه عقب ذلك ، أي حال كون المختلفين باغين ، فالمصدر مؤوّل بالمشتق. ويجوز أن تجعله مفعولا لأجله من (اختلف) باعتبار كونه صار مثبتا كما قرّرنا.
وقد لمّحت الآية إلى أنّ هذا الاختلاف ، والبغي كفر ، لأنّه أفضى بهم إلى نقض قواعد أديانهم ، وإلى نكران دين الإسلام ، ولذلك ذيّله بقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) إلخ.
وقوله : (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) تعريض بالتهديد ، لأنّ سريع الحساب إنّما يبتدئ بحساب من يكفر بآياته ، والحساب هنا كناية عن الجزاء كقوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء : ١١٣].
وفي ذكر هذه الأحوال الذميمة من أحوال أهل الكتاب تحذير للمسلمين أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك ، والمسلمون وإن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلّا اختلافا علميا فرعيا ، ولم يختلفوا اختلافا ينقض أصول دينهم بل غاية الكلّ الوصول إلى الحق من الدين ، وخدمة مقاصد الشريعة ، فبنو إسرائيل عبدوا العجل والرسول بين ظهرانيهم ، وعبدوا آلهة الأمم غير مرة ، والنصارى عبدوا مريم والمسيح ، ونقضوا أصول التوحيد ، وادّعوا حلول الخالق في المخلوق. فأما المسلمون لما قال أحد أهل التصوّف منهم كلاما يوهم الحلول حكم علماؤهم بقتله.
(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))
تفريع على قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [آل عمران : ١٩] الآية فإنّ الإسلام دين قد أنكروه ، واختلافهم في أديانهم يفضي بهم إلى محاجّة الرسول في تبرير ما هم عليه من الدين ، وأنّهم ليسوا على أقلّ مما جاء به دين الإسلام.