هذا المعنى ، فأمّا المشركون فبعدهم عنه أشدّ البعد ظاهر ، وأمّا النصارى فقد ألّهوا عيسى ، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم لله ؛ لأنّهم عبدوا مع الله غيره ، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك ، فأسّسوا الدين على حسب ما يلذّ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم.
وأما اليهود فإنّهم ـ وإن لم يشركوا بالله ـ قد نقضوا أصول التقوى ، فسفّهوا الأنبياء وقتلوا بعضهم ، واستهزءوا بدعوة الخير إلى الله ، وغيّروا الأحكام اتّباعا للهوى ، وكذّبوا الرسل ، وقتلوا الأحبار ، فأنّى يكون هؤلاء قد أسلموا لله ، وأكبر مبطل لذلك هو تكذيبهم محمدا صلىاللهعليهوسلم دون النظر في دلائل صدقه.
ثم إنّ قوله : (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) معناه : فإن التزموا النزول إلى التحقّق بمعنى أسلمت وجهي لله فقد اهتدوا ، ولم يبق إلا أن يتّبعوك لتلقي ما تبلّغهم عن الله ؛ لأنّ ذلك أول معاني إسلام الوجه لله ، وإن تولّوا وأعرضوا عن قولك لهم : آسلمتم فليس عليك من إعراضهم تبعة ، فإنّما عليك البلاغ ، فقوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) وقع موقع جواب الشرط ، وهو في المعنى علة الجواب ، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع ، أي لا تحزن ، ولا تظنّن أنّ عدم اهتدائهم ، وخيبتك في تحصيل إسلامهم ، كان لتقصير منك ؛ إذ لم تبعث إلّا للتبليغ ، لا لتحصيل اهتداء المبلّغ إليهم.
وقوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي مطّلع عليهم أتمّ الاطّلاع ، فهو الذي يتولّى جزاءهم وهو يعلم أنّك بلّغت ما أمرت به.
وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف «اتبعني» بإثبات ياء المتكلم في الوصل دون الوقف. وقرأه الباقون بإثبات الياء في الوصل والوقف.
[٢١ ، ٢٢] (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))
استئناف لبيان بعض أحوال اليهود ، المنافية إسلام الوجه لله ، فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص اليهود ، وهم قد عرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة من القرآن. والمناسبة : جريان الجدال مع النصارى وأن جعلوا جميعا في قرن قوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) [آل عمران : ٢٠].