المقصود. ولكن قدّم الذكر هنا لأنه هو المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم. وقد يجيء النفي على معنى كون المشبه المنفي أضعف من المشبه به كما قال الحريري في المقامة الرابعة : «غدوت قبل استقلال الركاب ، ولا اغتداء اغتداء الغراب» وقال في الحادية عشرة : «وضحكتم وقت الدفن ، ولا ضحككم ساعة الزّفن» وفي الرابعة عشرة : «وقمت» ولا كعمرو بن عبيد» فجاء بها كلها على نسق ما في هذه الآية.
وقوله : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) الظاهر أنها أرادت تسميتها باسم أفضل نبيئة في بني إسرائيل وهي مريم أخت موسى وهارون ، وخوّلها أنّ أباها سميّ أبي مريم أخت موسى.
وتكرّر التأكيد في (وَإِنِّي سَمَّيْتُها وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) للتأكيد : لأنّ حال كراهيتها يؤذن بأنها ستعرض عنها فلا تشتغل بها ، وكأنها أكدت هذا الخبر إظهارا للرضا بما قدّر الله تعالى ، ولذلك انتقلت إلى الدعاء لها الدال على الرضا والمحبة ، وأكدت جملة أعيذها مع أنها مستعملة في إنشاء الدعاء : لأنّ الخبر مستعمل في الإنشاء برمّته التي كان عليها وقت الخبرية ، كما قدّمناه في قوله تعالى : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) وكقول أبي بكر : «إنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطاب».
(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))
(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً).
تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة ، وضمائر النصب لمريم. ومعنى تقبلها : تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس ، أي أقام الله مريم مقام منقطع لله تعالى ، ولم يكن ذلك مشروعا من قبل.
وقوله : (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) الباء فيه للتأكيد ، وأصل نظم الكلام : فتقبّلها قبولا حسنا ، فأدخلت الباء على المفعول المطلق ليصير كالآلة للتقبل فكأنه شيء ثان ، وهذا إظهار للعناية بها في هذا القبول ، وقد عرف هذا القبول بوحي من الله إلى زكرياء بذلك ، وأمره بأن يكفلها زكرياء أعظم أحبارهم ، وأن يوحى إليه بإقامتها بعد ذلك لخدمة المسجد ، ولم يكن ذلك للنساء قبلها ، وكل هذا إرهاص بأنه سيكون منها رسول ناسخ لأحكام كثيرة من التوراة ؛ لأنّ خدمة النساء للمسجد المقدّس لم تكن مشروعة.