شيخ هرم لم يسبق له ولد وامرأة عاقر كذلك ، ولعلّ هذا التكوين حصل بكون زكرياء كان قبل هرمه ذا قوة زائدة لا تستقرّ بسببها النطفة في الرحم فلما هرم اعتدلت تلك القوة فصارت كالمتعارف ، أو كان ذلك من أحوال في رحم امرأته ولذلك عبر عن هذا التكوين بجملة (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي هو تكوين قدّره الله وأوجد أسبابه ومن أجل ذلك لم يقل هنا يخلق ما يشاء كما قاله في جانب تكوين عيسى.
وقوله : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أراد آية على وقت حصول ما بشّر به ، وهل هو قريب أو بعيد ، فالآية هي العلامة الدالة على ابتداء حمل زوجه. وعن السدي والربيع : آية تحقق كون الخطاب الوارد عليه واردا من قبل الله تعالى ، وهو ما في إنجيل لوقا. وعندي في هذا نظر ، لأنّ الأنبياء لا يلتبس عليهم الخطاب الوارد عليهم من الله ويعلمونه بعلم ضروري.
وقوله : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) جعل الله حبسة لسانه عن الكلام آية على الوقت الذي تحمل فيه زوجته ، لأنّ الله صرف ما له من القوة في أعصاب الكلام المتصلة بالدماغ إلى أعصاب التناسل بحكمة عجيبة يقرب منها ما يذكر من سقوط بعض الإحساس لمن يأكل البلاذر لقوة الفكر. أو أمره بالامتناع من الكلام مع الناس إعانة على انصراف القوة من المنطق إلى التناسل ، أي متى تمت ثلاثة الأيام كان ذلك أمارة ابتداء الحمل. قال الربيع جعل الله ذلك له عقوبة لتردّده في صحة ما أخبره به الملك ، وبذلك صرح في إنجيل لوقا ، فيكون الجواب على هذا الوجه من قبيل أسلوب الحكيم لأنه سأل آية فأعطي غيرها.
وقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أمر بالشكر. والذّكر المراد به: الذّكر بالقلب والصلاة إن كان قد سلب قوة النطق ، أو الذكر اللساني إن كان قد نهي عنها فقط. والاستثناء في قوله إلّا رمزا استثناء منقطع.
[٤٢ ـ ٤٤] (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
عطف على جملة (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ). انتقال من ذكر أمّ مريم إلى ذكر مريم.
ومريم علم عبراني ، وهو في العبرانية بكسر الميم ، وهو اسم قديم سميت به أخت موسى عليهالسلام ، وليس في كتب النصارى ذكر لاسم أبي مريم أمّ عيسى ولا لمولدها