إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣))
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ).
هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلّقان بالصلاة ، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنّه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ ، وإلى قرنه بحكم مقرّر يتعلّق بالصلاة أيضا. ويظهر أنّ سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها ، فوقعت في موقع وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات. تضمّنت حكما أوّل يتعلّق بالصلاة ابتداء ، وهو مقصود في ذاته أيضا بحسب الغاية ، وهو قوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ، ذلك أنّ الخمر كانت حلالا لم يحرّمها الله تعالى ، فبقيت على الإباحة الأصلية ، وفي المسلمين من يشربها. ونزل قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [البقرة : ٢١٩] في أول مدّة الهجرة فقال فريق من المسلمين : نحن نشربها لمنافعها لا لإثمها ، وقد علموا أنّ المراد من الإثم الحرج والمضرّة والمفسدة ، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأنّ الخمر يوشك أن تكون حراما لأنّ ما يشتمل على الإثم متّصف بوصف مناسب للتحريم ، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم ، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها ، فحدث بعد ثلاث سنين ما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا خمرا وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى). قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
والقرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبّس بالفعل ، لأنّ (قرب) حقيقة في الدنوّ من المكان أو الذات يقال : قرب منه ـ بضم الراء ـ وقربه ـ بكسر الراء ـ وهما بمعنى ، ومن الناس من زعم أنّ مكسور الراء للقرب المجازي خاصّة ، ولا يصحّ.
وإنّما اختير هذا الفعل دون لا تصلّوا ونحوه للإشارة إلى أنّ تلك حالة منافية للصلاة ، وصاحبها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام ، ومن هنا كانت مؤذنة بتغيّر شأن الخمر ، والتنفير منها ، لأنّ المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيمانا وأعلقهم بالصلاة ، فلا يرمقون شيئا يمنعهم من الصلاة إلّا بعين الاحتقار. ومن المفسّرين من تأوّل الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحالّ على المحلّ كما في قوله تعالى : (وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) [الحج : ٤٠] ، ونقل عن ابن عباس ، وابن مسعود ، والحسن قالوا : كان جماعة من