المريسيع صلّوا بدون وضوء فنزلت آية التيمّم. هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعيّة التيمّم بعد طول البحث والتأمّل في حكمة مقنعة في النظر ، وكنت أعدّ التيمّم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبّد بنوعه ، وأمّا التعبّد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير ، مثل عدد الركعات في الصلوات ، وكأنّ الشافعي لمّا اشترط أن يكون التيمّم بالتراب خاصّة وأن ينقل المتيمّم منه إلى وجهه ويديه ، راعى فيه معنى التنظيف كما في الاستجمار ، إلّا أنّ هذا القول لم ينقل عند أحد من السلف ، وهو ما سبق إلى خاطر عمّار بن ياسر حين تمرّغ في التراب لمّا تعذّر عليه الاغتسال ، فقال له النبيصلىاللهعليهوسلم «يكفيك من ذلك الوجه والكفّان». ولأجل هذا أيضا اختلف السلف في حكم التيمّم ، فقال عمر وابن مسعود : لا يقع التيمّم بدلا إلّا عن الوضوء دون الغسل ، وأنّ الجنب لا يصلّي حتّى يغتسل سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر. وقد تناظر في ذلك أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود : روى البخاري في كتاب التيمّم قال أبو موسى لا بن مسعود : أرأيت إذا أجنب فلم يجد الماء كيف يصنع؟ قال عبد الله : لا يصلّي حتّى يجد الماء. فقال أبو موسى : فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبي : كان يكفيك هكذا ، فضرب بكفّيه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفّيه ، قال ابن مسعود : ألم تر عمر لم يقنع منه بذلك ، قال أبو موسى. فدعنا من قول عمّار ، كيف تصنع بهذه الآية (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) فما درى عبد الله ما يقول ، فقال : إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمّم ، ولا شك أنّ عمر ، وابن مسعود ، تأوّلا آية النساء فجعلا قوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) رخصة لمرور المسجد ، وجعلا (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) مرادا به اللّمس الناقض للوضوء على نحو تأويل الشافعي ، وخالف جميع علماء الأمّة عمر وابن مسعود في هذا ، فقال الجمهور : يتيمّم فاقد الماء ومن يخاف على نفسه الهلاك أو المرض أو زيادة المرض ولو نزلة أو نزلة أو حمّى. وقال الشافعي : لا يتيمّم إلّا فاقد الماء أو من يخاف على نفسه التلف دون المرض أو زيادته ، لأنّ زيادة المرض غير محقّقة ، ويردّه أنّ كلا الأمرين غير محقّق الحصول ، وأنّ الله لم يكلّف الخلق بما فيه مشقّة. وقد تيمّم عمرو بن العاص رضياللهعنه في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس ، «فذكروا ذلك للنبيصلىاللهعليهوسلم فسأله فقال عمرو : إني سمعت الله يقول : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء : ٢٩] فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه.
وقوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) جعل التيمّم قاصرا على مسح الوجه