ومعنى (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أنهم لا يؤمنون أبدا فهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه ، وأطلق القلّة على العدم. وفسّر به قول تأبّط شرّا :
قليل التشكّي للمهمّ يصيبه |
|
كثير الهوى شتّى النّوى والمسالك |
قال الجاحظ في «كتاب البيان» عند قول عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يصف أرض نصيبين «كثيرة العقارب قليلة الأقارب» ، يضعون (قليلا) في موضع (ليس)، كقولهم : فلان قليل الحياء. ليس مرادهم أن هناك حياء وإن قلّ». قلت : ومنه قول العرب : قلّ رجل يقول ذلك ، يريدون أنّه غير موجود. وقال صاحب «الكشاف» عند قوله تعالى : «أإله مع الله قليلا ما تذكّرون» «والمعنى نفي التذكير. والقلّة مستعمل في معنى النفي». وإنّما استعملت العرب القلّة عوضا عن النفي لضرب من الاحتراز والاقتصاد ، فكأنّ المتكلّم يخشى أن يتلقّى عموم نفيه بالإنكار فيتنازل عنه إلى إثبات قليل وهو يريد النفي.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧))
أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم ، وإقامة الحجّة عليهم ، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وزع ، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تعنّ من فرص الموعظة والهدى إلّا انتهزها ، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل ، وتبصّرها في الحق ، فينجدوها حينئذ بقوارع الموعظة والإرشاد ، كما أشار إليه الحريري في المقامة (١١) إذ قال : «فلمّا ألحدوا الميت ، وفات قول ليت ، أشرف شيخ من رباوة ، متأبّطا لهراوة ، فقال : لمثل هذا فليعمل العاملون» إلخ ، لذلك جيء بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) الآية ـ عقب ما تقدّم ـ.
وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) [آل عمران : ٢٣] لأنّ ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب ، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنّهم شرّفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتّسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك ، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنّهم أوتوا الكتاب كلّه