العدوّ الكاشح ، ومن العدوّ الكائد ، ولعلّها إعداد لغزوة الفتح ، فإنّ هذه السورة نزلت في سنة ستّ ، وكان فتح مكة في سنة ثمان ، ولا شكّ أنّ تلك المدّة كانت مدّة اشتداد التألّب من العرب كلّهم لنصرة مشركي قريش والذبّ عن آلهتهم ، ويدلّ لذلك قوله بعد (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) [النساء : ٧٥] إلخ ، وقوله : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) [النساء : ١٤١] فإنّ اسم الفتح أريد به فتح مكة في مواضع كثيرة كقوله : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح : ٢٧].
وابتدأ بالأمر بأخذ الحذر. وهي أكبر قواعد القتال لاتّقاء خدع الأعداء. والحذر : هو توقّي المكروه.
ومعنى ذلك أن لا يغترّوا بما بيّنهم وبين العدوّ من هدنة صلح الحديبية ، فإنّ العدوّ وأنصاره يتربّصون بهم الدوائر ، ومن بينهم منافقون هم أعداء في صورة أولياء ، وهم الذين عنوا بقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) ـ إلى ـ (فَوْزاً عَظِيماً).
ولفظ (خُذُوا) استعارة لمعنى شدّة الحذر وملازمته ، لأنّ حقيقة الأخذ تناول الشيء الذي كان بعيدا عنك. ولما كان النسيان والغفلة يشبهان البعد والإلقاء كان التذكّر والتيقّظ يشبهان أخذ الشيء بعد إلقائه ، كقوله : (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ١٩٩] ، وقولهم : أخذ عليه عهدا وميثاقا. وليس الحذر مجازا في السلاح كما توهمه كثير ، فإنّ الله تعالى قال في الآية الأخرى (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) [النساء : ١٠٢]. فعطف السلاح عليه.
وقوله : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) تفريع عن أخذ الحذر لأنّهم إذا أخذوا حذرهم تخيّروا أساليب القتال بحسب حال العدوّ. و (انْفِرُوا) بمعنى أخرجوا للحرب ، ومصدره النّفر ، بخلاف نفر ينفر ـ بضمّ العين ـ في المضارع فمصدره النفور.
و (ثبات) بضمّ الثاء جمع ثبة ـ بضمّ الثاء أيضا ـ وهي الجماعة ، وأصلها ثبية أو ثبوة بالياء أو بالواو ، والأظهر أنّها بالواو ، لأنّ الكلمات التي بقي من أصولها حرفان وفي آخرها هاء للتأنيث أصلها الواو نحو عزة وعضة فوزنها فعة ، وأمّا ثبة الحوض ، وهي وسطه الذي يجتمع فيه الماء فهي من ثاب يثوب إذا رجع ، وأصلها ثوبة فخفّفت فصارت بوزن فلة ، واستدلّوا على ذلك بأنّها تصغّر على ثويبة ، وأنّ الثبة بمعنى الجماعة تصغّر على ثبيّة. قال النحّاس : «ربّما توهّم الضعيف في اللغة أنّهما واحد مع أنّ بينهما فرقا» ومع هذا فقد جعلهما صاحب «القاموس» من واد واحد وهو حسن ، إذ قد تكون ثبة الحوض مأخوذة من الاجتماع إلّا إذا ثبت اختلاف التصغير بسماع صحيح.