كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))
الفاء : إمّا للتفريع ، تفريع الأمر على الآخر ، أي فرّع (فَلْيُقاتِلْ) على (خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا) [النساء : ٧١] ، أو هي فاء فصيحة ، أفصحت عمّا دلّ عليه ما تقدّم من قوله : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) وقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) [٧٢] لأنّ جميع ذلك اقتضى الأمر بأخذ الحذر ، وهو مهيّئ لطلب القتال والأمر بالنفير والإعلام بمن حالهم حال المتردّد المتقاعس ، أي فإذا علمتم جميع ذلك ، فالذين يقاتلون في سبيل الله هم الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة لا كلّ أحد.
و (يَشْرُونَ) معناه يبيعون ، لأنّ شرى مقابل اشترى ، مثل باع وابتاع وأكرى واكترى ، وقد تقدّم تفصيله عند قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في سورة البقرة [١٦]. فالذين يشرون الحياة الدنيا هم الذين يبذلونها ويرغبون في حظّ الآخرة. وإسناد القتال المأمور بع إلى أصحاب هذه الصلة وهي : (يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) للتنويه بفضل المقاتلين في سبيل الله ، لأنّ في الصلة إيماء إلى علّة الخبر ، أي يبعثهم على القتال في سبيل الله بذلهم حياتهم الدنيا لطلب الحياة الأبدية ، وفضيحة أمر المبطّئين حتى يرتدعوا عن التخلّف ، وحتّى يكشف المنافقون عن دخيلتهم ، فكان معنى الكلام : فليقاتل في سبيل الله المؤمنون حقّا فإنّهم يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، ولا يفهم أحد من قوله : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ) أنّ الأمر بالقتال مختصّ بفريق دون آخر ، لأنّ بذل الحياة في الحصول على ثواب الآخرة شيء غير ظاهر حتّى يعلّق التكليف به ، وإنّما هو ضمائر بين العباد وربّهم ، فتعيّن أنّ إسناد الأمر إلى أصحاب هذه الصلة مقصود منه الثناء على المجاهدين ، وتحقير المبطّئين ، كما يقول القائل «ليس بعشّك فادرجي». فهذا تفسير الآية بوجه لا يعتريه إشكال. ودخل في قوله : (أَوْ يَغْلِبْ) أصناف الغلبة على العدوّ بقتلهم أو أسرهم أو غنم أموالهم.
وإنّما اقتصر على القتل والغلبة في قوله : (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) ولم يزد أو يؤسر إباية من أن يذكر لهم حالة ذميمة لا يرضاها الله للمؤمنين ، وهي حالة الأسر ؛ فسكت عنها لئلّا يذكرها في معرض الترغيب وإن كان للمسلم عليها أجر عظيم أيضا إذا بذل جهده في الحرب فغلب إذ الحرب لا تخلو من ذلك ، وليس بمأمور أن يلقي بيده إلى التهلكة إذا علم أنّه لا يجدي عنه الاستبسال ، فإنّ من منافع الإسلام استبقاء رجاله لدفاع العدوّ.
والخطاب في قوله : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ) التفات من طريق الغيبة ، وهو طريق