سيّئات الإنسان من غير تسبّبه مثل ما أصاب الأمم من خسف وأوبئة ، وذلك نادر بالنسبة لأكثر السيّئات ، على أنّ بعضا منه كان جزاء على سوء فعل ، فلا جرم كان الحظّ الأعظم في إصابة السيّئة الإنسان لتسبّبه مباشرة أو بواسطة ، فصحّ أن يسند تسبّبها إليه ، لأنّ الجزء الذي هو لله وحده منها هو الأقلّ. وقد فسّر هذا المعنى ما ورد في «الصحيح» ، ففي حديث الترمذي «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو ما دونها إلّا بذنب وما يعفو الله أكثر».
وشملت الحسنة والسيّئة ما كان من الأعيان ، كالمطر والصواعق ، والثمرة والجراد ، وما كان من الأعراض كالصحّة ، وهبوب الصّبا ، والربح في التجارة. وأضدادها كالمرض ، والسّموم المهلكة ، والخسارة. وفي هذا النوع كان سبب نزول هذه الآية ، ويلحق بذلك ما هو من أفعال العباد كالطاعات النافعة للطائع وغيره ، والمعاصي الضارّة به وبالناس ، وفي هذا الأمر جاء قوله تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) [سبأ : ٥٠] وهو على نحو هذه الآية وإن لم تكن نازلة فيه.
ولكون هذه القضية دقيقة الفهم نبّه الله على قلّة فهمهم للمعاني الخفيّة بقوله : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) ، فقوله : (لا يَكادُونَ) يجوز أن يكون جاريا على نظائره من اعتبار القلب ، أي يكادون لا يفقهون ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] فيكون فيه استبقاء عليهم في المذمّة. ويجوز أن يكون على أصل وضع التركيب ، أي لا يقاربون فهم الحديث الذي لا يعقله إلّا الفطناء ، فيكون أشدّ في المذمّة.
والفقه فهم ما يحتاج إلى إعمال فكر. قال الراغب : «هو التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد ، وهو أخص من العلم». وعرفه غيره بأنّه «إدراك الأشياء الخفيّة».
والخطاب في قوله : (ما أَصابَكَ) خطاب للرسول ، وهذا هو الأليق بتناسق الضمائر ، ثم يعلم أن غيره مثله في ذلك.
وقد شاع الاستدلال بهذه الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، كما شاع استدلال المعتزلة بها على أنّ الله لا يخلق المعصية والشرّ لقوله : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). وقال أبو الحسن شبيب بن حيدرة المالكي في كتاب «حزّ الغلاصم» : إنّ الاحتجاج بها في كلا الأمرين جهل لابتنائه على توهّم أنّ الحسنة والسيّئة هي الطاعة والمعصية ، وليستا كذلك.