وأنا أقول : إنّ أهل السنّة ما استدلّوا بها إلّا قولا بموجب استدلال المعتزلة بها على التفرقة بين اكتساب الخير والشّرّ على أنّ عموم معنى الحسنة والسيئة ـ كما بيّنته آنفا ـ يجعل الآية صالحة للاستدلال ، وهو استدلال تقريبي لأنّ أصول الدين لا يستدلّ فيها بالظواهر كالعموم.
وجيء في حكاية قولهم : (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ـ (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) بكلمة (عند) للدلالة على قوّة نسبة الحسنة إلى الله ونسبة السيّئة للنبي عليه الصلاة والسلام أي قالوا ما يفيد جزمهم بذلك الانتساب.
ولمّا أمر الله رسوله أن يجيبهم قال : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) مشاكلة لقولهم ، وإعرابا عن التقدير الأزلي عند الله.
وأمّا قوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فلم يؤت فيه بكلمة (عند) ، إيماء إلى أنّ ابتداء مجيء الحسنة من الله ومجيء السيّئة من نفس المخاطب ، ابتداء المتسبّب لسبب الفعل ، وليس ابتداء المؤثّر في الأثر.
وقوله : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) عطف على قوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) للردّ على قولهم : السيئة من عند محمد ، أي أنك بعثت مبلّغا شريعة وهاديا ، ولست مؤثرا في الحوادث ولا تدل مقارنة الحوادث المؤلمة على عدم صدق الرسالة. فمعنى (أَرْسَلْناكَ) بعثناك كقوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ) [الحجر : ٢٢] ونحوه. و (لِلنَّاسِ) متعلق ب (أَرْسَلْناكَ). وقوله (رَسُولاً) حال من (أَرْسَلْناكَ) ، والمراد بالرسول هنا معناه الشرعي المعروف عند أهل الأديان : وهو النبي المبلّغ عن الله تعالى ، فهو لفظ لقيي دالّ على هذا المعنى ، وليس المراد به اسم المفعول بالمعنى اللغوي ولهذا حسن مجيئه حالا مقيّدة ل «أرسلناك» ، لاختلاف المعنيين ، أي بعثناك مبلّغا لا مؤثّرا في الحوادث ، ولا أمارة على وقوع الحوادث السيّئة. وبهذا يزول إشكال مجيء هذه الحال غير مفيدة إلّا التأكيد ، حتّى احتاجوا إلى جعل المجرور متعلّقا ب (رَسُولاً) ، وأنّه قدّم عليه دلالة على الحصر باعتبار العموم المستفاد من التعريف ، كما في «الكشّاف» ، أي لجميع الناس لا لبعضهم ، وهو تكلّف لا داعي إليه ، وليس المقام هذا الحصر.
[٨٠ ، ٨١] (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ