ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١))
هذا كالتكملة لقوله : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) [النساء : ٧٩] باعتبار ما تضمّنه من ردّ اعتقادهم أنّ الرسول مصدر السيّئات التي تصيبهم ، ثم من قوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النساء : ٧٩] إلخ ، المؤذن بأنّ بين الخالق وبين المخلوق فرقا في التأثير وأنّ الرسالة معنّى آخر فاحترس بقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) عن توهّم السامعين التفرقة بين الله ورسوله في أمور التشريع ، فأثبت أنّ الرسول في تبليغه إنّما يبلّغ عن الله ، فأمره أمر الله ، ونهيه نهي الله ، وطاعته طاعة الله ، وقد دلّ على ذلك كلّه قوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) لاشتمالها على إثبات كونه رسولا واستلزامها أنّه يأمر وينهى ، وأنّ ذلك تبليغ لمراد الله تعالى ، فمن كان على بيّنة من ذلك أو كان في غفلة فقد بيّن الله له اختلاف مقامات الرسول ، ومن تولّى أو أعرض واستمرّ على المكابرة (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ، أي حارسا لهم ومسئولا عن إعراضهم ، وهذا تعريض بهم وتهديد لهم بأن صرفه عن الاشتغال بهم ، فيعلم أنّ الله سيتولّى عقابهم.
والتولّي حقيقته الانصراف والإدبار ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) [البقرة : ٢٠٥] وفي قوله : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) في سورة البقرة [١٤٢]. واستعمل هنا مجازا في العصيان وعدم الإصغاء إلى الدعوة.
ثم بيّن أنّهم لضعف نفوسهم لا يعرضون جهرا بل يظهرون الطاعة ، فإذا أمرهم الرسول أو نهاهم يقولون له (طاعَةٌ) أي : أمرنا طاعة ، وهي كلمة يدلّون بها على الامتثال ، وربما يقال : سمع وطاعة ، وهو مصدر مرفوع على أنّه خبر لمبتدإ محذوف ، أي أمرنا أو شأننا طاعة ، كما في قوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨]. وليس هو نائبا عن المفعول المطلق الآتي بدلا من الفعل الذي يعدل عن نصبه إلى الرفع للدلالة على الثبات مثل «قال سلام» ، إذ ليس المقصود هنا إحداث الطاعة وإنّما المقصود أنّنا سنطيع ولا يكون منّا عصيان.
ومعنى (بَرَزُوا) خرجوا ، وأصل معنى البروز الظهور ، وشاع إطلاقه على الخروج مجازا مرسلا.
و (بَيَّتَ) هنا بمعنى قدّر أمرا في السّرّ وأضمره ، لأنّ أصل البيات هو فعل شيء في الليل ، والعرب تستعير ذلك إلى معنى الإسرار ، لأنّ الليل أكتم للسرّ ، ولذلك يقولون : هذا