وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) امتنان بإرشادهم إلى أنواع المصالح ، والتحذير من المكائد ومن حبائل الشيطان وأنصاره.
واستثناء (إِلَّا قَلِيلاً) من عموم الأحوال المؤذن بها (لَاتَّبَعْتُمُ) ، أي إلّا في أحوال قليلة ، فإن كان المراد من فضل الله ورحمته ما يشمل البعثة فما بعدها ، فالمراد بالقليل الأحوال التي تنساق إليها النفوس في بعض الأحوال بالوازع العقلي أو العادي ، وإن أريد بالفضل والرحمة النصائح والإرشاد فالمراد بالقليل ما هو معلوم من قواعد الإسلام. ولك أن تجعله استثناء من ضمير (لَاتَّبَعْتُمُ) أي إلّا قليلا منكم ، فالمراد من الاتّباع اتّباع مثل هذه المكائد التي لا تروج على أهل الرأي من المؤمنين.
(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤))
تفريع على ما تقدّم من الأمر بالقتال ، ومن وصف المثبطين عنه ، والمتذمّرين منه ، والذين يفتنون المؤمنين في شأنه ، لأنّ جميع ذلك قد أفاد الاهتمام بأمر القتال ، والتحريض عليه ، فتهيّأ الكلام لتفريع الأمر به. ولك أن تجعل الفاء فصيحة بعد تلك الجمل الكثيرة ، أي : إذا كان كما علمت فقاتل في سبيل الله ، وهذا عود إلى ما مضى من التحريض على الجهاد ، وما بينهما اعتراض. فالآية أوجبت على الرسول صلىاللهعليهوسلم القتال ، وأوجبت عليه تبليغ المؤمنين الأمر بالقتال وتحريضهم عليه ، فعبّر عنه بقوله : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ٨٤] وهذا الأسلوب طريق من طرق الحثّ والتحريض لغير المخاطب ، لأنّه إيجاب القتال على الرسول ، وقد علم إيجابه على جميع المؤمنين بقوله : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) [النساء : ٧٤] فهو أمر للقدوة بما يجب اقتداء الناس به فيه. وبيّن لهم علّة الأمر وهي رجاء كفّ بأس المشركين ، ف (عسى) هنا مستعارة للوعد. والمراد بهم هنا كفّار مكة ، فالآيات تهيئة لفتح مكة.
وجملة (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) تذييل لتحقيق الرجاء أو الوعد ، والمعنى أنه أشدّ بأسا إذا شاء إظهار ذلك ، ومن دلائل المشيئة امتثال أوامره التي منها الاستعداد وترقّب المسببات من أسبابها.
والتنكيل عقاب يرتدع به رائيه فضلا عن الذي عوقب به.