وقد علم أنّ الانقسام إلى فئتين ما هو إلّا انقسام في حالة من حالتين ، والمقام للكلام في الإيمان والكفر ، أي فما لكم بين مكفّر لهم ومبرّر ، وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم. قيل : نزلت هذه الآية في المنخزلين يوم أحد : عبد الله بن أبيّ وأتباعه ، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك. وفي «صحيح البخاري» عن زيد بن ثابت قال : رجع ناس من أصحاب النبي من أحد ، وكان الناس فيهم فريقين ، فريق يقول : اقتلهم ، وفريق يقول : لا ، فنزلت «فما لكم في المنافقين فئتين» ، وقال : «إنّها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة» أي ولم يقتلهم النبي صلىاللهعليهوسلم جريا على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام. فتكون الآية لبيان أنّه ما كان ينبغي التردّد في أمرهم. وعن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة أظهروا الإيمان ، وهاجروا إلى المدينة ، ثمّ استأذنوا في الرجوع إلى مكة ، ليأتوا ببضاعة يتّجرون فيها ، وزعموا أنّهم لم يزالوا مؤمنين ، فاختلف المسلمون في شأنهم : أهم مشركون أم مسلمون. ويبيّنه ما روي عن ابن عباس أنّها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين ، ليكونوا في أمن من تعرّض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها ، وأنّه قد بلغ المسلمين أنّهم خرجوا من مكة في تجارة ، فقال فريق من المسلمين : نركب إليهم فنقاتلهم ، وقال فريق : كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام ، فاختلف المسلمون في ذلك ، ولم يغيّر رسول الله على أحد من الفريقين حتّى نزلت الآية.
وعن الضّحاك : نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا ، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) [النساء : ٩٧] الآية. وأحسب أنّ هؤلاء الفرق كلّهم كانوا معروفين وقت نزول الآية ، فكانوا مثلا لعمومها وهي عامّة فيهم وفي غيرهم من كلّ من عرف بالنفاق يومئذ من أهل المدينة ومن أهل مكة.
والظاهر أنّ الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم ، لقصد عدم التعرّض لهم وقت خروجهم استدراجا لهم إلى يوم فتح مكة.
وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المخطئين لأنّ دلائل كفر المتحدّث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرّد النطق بكلمة الإسلام ، مع التجرّد عن إظهار موالاة المسلمين. وهذه الآية دليل على أنّ المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدلّ به العالم لا يكون بعيدا عن