معاملة هؤلاء ومعاملة الفريق المتقدّم في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) [النساء : ٩٠] أمر واحد ، وهو تركهم إذا تركوا المؤمنين وسالموهم ، وقتالهم إذا ناصبوهم العداء ، إلّا أنّ الله تعالى جعل الشرط المفروض بالنسبة إلى الأوّلين : أنّهم يعتزلون المسلمين ، ويلقون إليهم السلم ، ولا يقاتلونهم ، وجعل الشرط المفروض بالنسبة إلى هؤلاء أنّهم لا يعتزلون المسلمين ، ولا يلقون إليهم السلم ، ولا يكفّون أيديهم عنهم ، نظرا إلى الحالة المترقبة من كلّ فريق من المذكورين. وهو افتنان بديع لم يبق معه اختلاف في الحكم ولكن صرّح باختلاف الحالين ، وبوصف ما في ضمير الفريقين.
والوجدان في قوله : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) بمعنى العثور والاطّلاع ، أي ستطّلعون على قوم آخرين ، وهو من استعمال وجد ، ويتعدّى إلى مفعول واحد ، فقوله : (يُرِيدُونَ) جملة في موضع الحال ، وسيأتي بيان تصاريف استعمال الوجدان في كلامهم عند قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) في سورة المائدة [٨٢].
وجيء باسم الإشارة في قوله : (وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) لزيادة تمييزهم.
(والسلطان المبين) هو الحجّة الواضحة الدالّة على نفاقهم ، فلا يخشى أن ينسب المسلمون في قتالهم إلى اعتداء وتفريق الجامعة.
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢))
انتقال الغرض يعيد نشاط السامع بتفنّن الأغراض ، فانتقل من تحديد أعمال المسلمين مع العدوّ إلى أحكام معاملة المسلمين بعضهم مع بعض : من وجوب كفّ عدوان بعضهم على بعض.
والمناسبة بين الغرض المنتقل منه والمنتقل إليه : أنّه قد كان الكلام في قتال المتظاهرين بالإسلام الذين ظهر نفاقهم ، فلا جرم أن تتشوف النفس إلى حكم قتل