بقوله : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) ، فهو مثل ردّ العجز على الصدر. والكتاب : والقرآن. والحكمة : النبوءة. وتعليمه ما لم يكن يعلم هو ما زاد على ما في الكتاب من العلم الوارد في السنّة والإنباء بالمغيّبات.
(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤))
لم تخل الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة ، ولا الأحوال التي حذّرت منها ، من تناج وتحاور ، سرّا وجهرا ، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها ، لذلك كان المقام حقيقا بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه ، لأنّ في ذلك تعليما وتربية وتشريعا ، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم ، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة ، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين ، وكان التناجي فاشيا لمقاصد مختلفة ، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكّا ، أي خوفا ، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهل الكتاب ، فلذلك تكرّر النهي عن النجوى في القرآن نحو (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) [المجادلة : ٨] الآيات ، وقوله : (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [الإسراء : ٤٧] وقوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)[البقرة : ١٤] ، فلذلك ذمّ الله النجوى هنا أيضا ، فقال : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ). فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لإفادة حكم النجوى ، والمناسبة قد تبيّنت.
والنجوى مصدر ، هي المسارّة في الحديث ، وهي مشتقّة من النجو ، وهو المكان المستتر الذي المفضي إليه ينجو من طالبه ، ويطلق النجوى على المناجين ، وفي القرآن (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) ، وهو ـ وصف بالمصدر ـ والآية تحتمل المعنيين. والضمير الذي أضيف إليه (نَجْوى) ضمير جماعة الناس كلّهم ، نظير قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) إلى قوله : (وَما يُعْلِنُونَ) في سورة هود [٥] ، وليس عائدا إلى ما عادت إليه الضمائر التي قبله في قوله : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) [النساء : ١٠٨] إلى هنا ؛ لأنّ المقام مانع من عوده إلى تلك الجماعة إذ لم تكن نجواهم إلّا فيما يختصّ بقضيتهم ، فلا عموم لها يستقيم معه الاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ). وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة ، فإنّ شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة ، لأنّ الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلّم برأيه ، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره ، فلا