يصير إلى المناجاة إلّا في أحوال شاذّة يناسبها إخفاء الحديث. فمن يناجي في غير تلك الأحوال رمي بأنّ شأنه ذميم ، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره ، كما قال صالح بن عبد القدوس :
الستر دون الفاحشات ولا |
|
يغشاك دون الخير من ستر |
وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرّة ، لأنّ التناجي كان من شأن المنافقين فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) [المجادلة : ٨] وقال : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [المجادلة : ١٠].
وقد ظهر من نهي النبي صلىاللهعليهوسلم أن يتناجى اثنان دون ثالث أنّ النجوى تبعث الريبة في مقاصد المتناجين ، فعلمنا من ذلك أنّها لا تغلب إلّا على أهل الريب والشبهات ، بحيث لا تصير دأبا إلّا لأولئك ، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى.
ومعنى (لا خَيْرَ) أنّه شرّ ، بناء على المتعارف في نفي الشيء أن يراد به إثبات نقيضه ، لعدم الاعتداد بالواسطة ، كقوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس: ٣٢] ، ولأنّ مقام التشريع إنّما هو بيان الخير والشرّ. وقد نفى الخير عن كثير من نجواهم أو متناجيهم ، فعلم من مفهوم الصفة أنّ قليلا من نجواهم فيه خير ، إذ لا يخلو حديث الناس من تناج فيما فيه نفع. والاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) على تقدير مضاف ، أي : إلّا نجوى من أمر ، أو بدون تقدير إن كانت النجوى بمعنى المتناجين ، وهو مستثنى من (كَثِيرٍ) ، فحصل من مفهوم الصفة ومفهوم الاستثناء قسمان من النجوى يثبت لهما الخير ، ومع ذلك فهما قليل من نجواهم. أمّا القسم الذي أخرجته الصفة ، فهو مجمل يصدق في الخارج على كلّ نجوى تصدر منهم فيها نفع ، وليس فيها ضرر ، كالتناجي في تشاور فيمن يصلح لمخالطة ، أو نكاح أو نحو ذلك.
وأمّا القسم الذي أخرجه الاستثناء فهو مبيّن في ثلاثة أمور : الصدقة ، والمعروف ، والإصلاح بين الناس. وهذه الثلاثة لو لم تذكر لدخلت في القليل من نجواهم الثابت له الخير ، فلمّا ذكرت بطريق الاستثناء علمنا أنّ نظم الكلام جرى على أسلوب بديع فأخرج ما فيه الخير من نجواهم ابتداء بمفهوم الصفة ، ثم أريد الاهتمام ببعض هذا القليل من نجواهم ، فأخرج من كثير نجواهم بطريق الاستثناء ، فبقي ما عدا ذلك من نجواهم ، وهو