الثاني عين الأوّل غرّته القاعدة المتداولة عند بعض النحاة ، وهي : أنّ لفظ النكرة إذا أعيد معرّفا باللام فهو عين الأولى. وهذه القاعدة ذكرها ابن هشام الأنصاري في «مغني اللبيب» في الباب السادس ، فقال : يقولون : «النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، وإذا أعيدت معرفة ، أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كانت الثانية عين الأولى» ، ثم ذكر أنّ في القرآن آيات تردّ هذه الأحكام الأربعة كقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) [الروم : ٥٤] وقوله : (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء : ١٢٨] (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [النحل : ٨٨] والشيء لا يكون فوق نفسه (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) [النساء : ١٥٣] ، وأنّ في كلام العرب ما يردّ ذلك أيضا. والحقّ أنّه لا يختلف في ذلك إذا قامت قرينة على أنّ الكلام لتعريف الجنس لا لتعريف العهد ، كما هنا. وقد تقدّم القول في إعادة المعرفة نكرة عند قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) في سورة البقرة [١٩٣]. ويأتي عند قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) في سورة الأنعام [٣٧].
وقوله (خَيْرٌ) ليس هو تفضيلا ولكنّه صفة مشبّهة ، وزنه فعل ، كقولهم : سمح وسهل ، ويجمع على خيور. أو هو مصدر مقابل الشرّ ، فتكون إخبارا بالمصدر. وأمّا المراد به التفضيل فأصل وزنه أفعل ، فخفّف بطرح الهمزة ثم قلب حركته وسكونه.
جمعه أخيار ، أي والصلح في ذاته خير عظيم. والحمل على كونه تفضيلا يستدعي أن يكون المفضّل عليه هو النشوز والإعراض. ، وليس فيه كبير معنى.
وقد دلّت الآية على شدّة الترغيب في هذا الصلح بمؤكّدات ثلاثة : وهي المصدر المؤكّد في قوله : (صُلْحاً) ، والإظهار في مقام الإضمار في قوله : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) ، والإخبار عنه بالمصدر أو بالصفة المشبهة فإنّها تدلّ على فعل سجية.
ومعنى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) ملازمة الشحّ للنفوس البشرية حتّى كأنّه حاضر لديها. ولكونه من أفعال الجبلّة بني فعله للمجهول على طريقة العرب في بناء كلّ فعل غير معلوم الفاعل للمجهول ، كقولهم : شغف بفلانة ، واضطرّ إلى كذا. ف «الشحّ» منصوب على أنّه مفعول ثان ل «أحضرت» لأنّه من باب أعطى.
وأصل الشحّ في كلام العرب البخل بالمال ، وفي الحديث «أن تصدّق وأنت صحيح