في سورة الأعراف [١٤٣]. وبيّن أنّهم لم يردعهم ذلك فاتّخذوا العجل إلها من بعد ما جاءتهم البيّنات الدالّة على وحدانية الله ونفي الشريك وعطفت جملة اتّخاذهم العجل بحرف (ثمّ) المفيد في عطفه الجمل معنى التراخي الرتبى. فإنّ اتّخاذهم العجل إلها أعظم جرما ممّا حكي قبله ، ومع ذلك عفا الله عنهم وآتى موسى سلطانا مبينا ، أي حجّة واضحة عليهم في تمرّدهم ، فصار يزجرهم ويؤنّبهم. ومن سلطانه المبين أن أحرق لهم العجل الذي اتّخذوه إلها.
ثم ذكر آيات أخرى أظهرها الله لهم وهي : رفع الطور ، والأمر بقتال أهل أريحا ، ودخولهم بابها سجّدا. والباب يحتمل أنّه باب مدينة أريحا ، ويحتمل أنّه باب الممرّ بين الجبال ونحوها ، كما سيأتي عند قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) ـ إلى قوله ـ (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) في سورة العقود [٢٣] ؛ وتحريم صيد البحر عليهم في السبت. وقد مضى الكلام عليها جميعا في سورة البقرة.
وأخذ الميثاق عليهم : المراد به العهد ، ووصفه بالغليظ. أي القويّ ، والغلظ من صفات الأجسام ، فاستعير لقوّة المعنى وكنّى به عن توثّق العهد لأنّ الغلظ يستلزم القوّة ، والمراد جنس الميثاق الصادق بالعهود الكثيرة التي أخذت عليهم ، وقد ذكر أكثرها في آي سورة البقرة ، والمقصود من هذا إظهار تأصّلهم في اللجاج والعناد ، من عهد أنبيائهم ، تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم على ما لقي منهم ، وتمهيدا لقوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥].
وقوله : (لا تَعْدُوا) قرأه نافع في أصحّ الروايات ، وهي لورش عنه ولقالون في إحدى روايتيه عنه ـ بفتح العين وتشديد الدال المضمومة ـ أصله : لا تعتدوا ، والاعتداء افتعال من العدو ، يقال : اعتدى على فلان ، أي تجاوز حدّ الحقّ معه ، فلمّا كانت التاء قريبة من مخرج الدال ووقعت متحرّكة وقبلها ساكن ، تهيّأ إدغامها ، فنقلت حركتها إلى العين الساكنة قبلها ، وأدغمت في الدال إدغاما لقصد التخفيف ، ولذلك جاز في كلام العرب إظهارها ؛ فقالوا : تعتدوا وتعدّوا ، لأنّها وقعت قبل الدال ، فكانت غير مجذوبة إلى مخرجه ، ولو وقعت بعد الدال لوجب إدغامها في نحو أدّان. وقرأ الجمهور ، وقالون في إحدى روايتين عنه : «لا تعدوا» ـ بسكون العين وتخفيف الدال ـ مضارع مجزوم من العدو ، وهو العدوان ، كقوله : (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) في سورة الأعراف [١٦٣] ؛ وفي إحدى روايتين عن قالون : ـ باختلاس الفتحة ـ ، وقرأه أبو جعفر : ـ بسكون العين وتشديد الدال ـ ، وهي رواية عن نافع أيضا ، رواها ابن مجاهد. قال أبو علي ، في «الحجّة» : وكثير من