الزمخشري : «موقع قوله : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) من قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) موقع الجملة المفسّرة لأنّه بيان للشهادة وأنّ شهادته بصحّته أنّه أنزله بالنظم المعجز». فلعلّه يجعل جملة (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) مستقلة بالفائدة ، وأنّ معنى (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) بصحّة ما أنزل إليك ، وما ذكرته أعرق في البلاغة.
ومعنى (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي متلبّسا بعلمه ، أي بالغا الغاية في باب الكتب السماوية ، شأن ما يكون بعلم من الله تعالى ، ومعنى ذلك أنّه معجز لفظا ومعنى ، فكما أعجز البلغاء من أهل اللّسان أعجز العلماء من أهل الحقائق العالية.
والباء في قوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) زائدة للتّأكيد ، وأصله : كفى الله شهيدا كقوله :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
أو يضمّن (كفى) معنى اقتنعوا ، فتكون الباء للتعدية.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧))
يجوز أن يكون المراد بالذين كفروا هنا أهل الكتاب ، أي اليهود ، فتكون الجملة بمنزلة الفذلكة للكلام السابق الرّادّ على اليهود من التحاور المتقدّم. وصدّهم عن سبيل الله يحتمل أن يكون من صدّ القاصر الذي قياس مضارعه يصدّ ـ بكسر الصاد ـ ، أي أعرضوا عن سبيل الله. أي الإسلام ، أو هو من صدّ المتعدي الذي قياس مضارعه ـ بضمّ الصاد ـ ، أي صدّوا النّاس. وحذف المفعول لقصد التكثير. فقد كان اليهود يتعرّضون للمسلمين بالفتنة ، ويقوون أوهام المشركين بتكذيبهم النبي صلىاللهعليهوسلم. ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا المشركين ، كما هو الغالب في إطلاق هذا الوصف في القرآن ، فتكون الجملة استئنافا ابتدائيا ، انتقل إليه بمناسبة الخوض في مناواة أهل الكتاب للإسلام. وصدّهم عن سبيل الله ، أي صدّهم النّاس عن الدخول في الإسلام مشهور.
والضلال الكفر لأنّه ضياع عن الإيمان ، الذي هو طريق الخير والسعادة ، فإطلاق الضلال على الكفر استعارة مبنيّة على استعارة الطريق المستقيم للإيمان. ووصف الضلال بالبعيد مع أنّ البعد من صفات المسافات هو استعارة البعد لشدّة الضلال وكماله في نوعه ، بحيث لا يدرك مقداره ، وهو تشبيه شائع في كلامهم : أن يشبّهوا بلوغ الكمال بما يدلّ على المسافات والنهايات كقولهم : بعيد الغور ، وبعيد القعر ، ولا نهاية له ، ولا غاية له ، ورجل بعيد الهمّة ، وبعيد المرمى ، ولا منتهى لكبارها ، وبحر لا ساحل له ، وقولهم :