هذا إغراق في كذا.
ومن بديع مناسبته هنا أنّ الضلال الحقيقي يكون في الفيافي والموامي ، فإذا اشتدّ التيه والضلال بعد صاحبه عن المعمور ، فكان في وصفه بالبعيد تعاهد للحقيقة ، وإيماء إلى أنّ في إطلاقه على الكفر والجهل نقلا عرفيا.
[١٦٨ ، ١٦٩] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩))
الجملة بيان لجملة (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ١٦٧] ، لأنّ السامع يترقّب معرفة جزاء هذا الضلال فبيّنته هذه الجملة.
وإعادة الموصول وصلته دون أن يذكر ضميرهم لتبنى عليه صلة (وَظَلَمُوا) ، ولأنّ في تكرير الصّلة تنديدا عليهم. ويجيء على الوجهين في المراد من الذين كفروا في الآية الّتي قبلها أن يكون عطف الظلم على الكفر في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) إمّا أن يراد به ظلم النّفس ، وظلم النبي والمسلمين ، وذلك اللائق بأهل الكتاب ؛ وإمّا أن يراد به الشرك ، كما هو شائع في استعمال القرآن كقوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، فيكون من عطف الأخصّ على الأعمّ في الأنواع ؛ وإمّا أن يراد به التعدّي على النّاس ، كظلمهم النبي صلىاللهعليهوسلم بإخراجه من أرضه ، وتأليب النّاس عليه ، وغير ذلك ، وظلمهم المؤمنين بتعذيبهم في الله ، وإخراجهم ، ومصادرتهم في أموالهم ، ومعاملتهم بالنفاق والسخريّة والخداع ؛ وإمّا أن يراد به ارتكاب المفاسد والجرائم ممّا استقرّ عند أهل العقول أنّه ظلم وعدوان.
وقوله : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) صيغة جحود ، وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) في سورة آل عمران [٧٩] ، فهي تقتضي تحقيق النفي ، وقد نفي عن الله أن يغفر لهم تحذيرا من البقاء على الكفر والظلم ، لأنّ هذا الحكم نيط بالوصف ولم ينط بأشخاص معروفين ، فإن هم أقلعوا عن الكفر والظلم لم يكونوا من الّذين كفروا وظلموا. ومعنى نفي أن يهديهم طريقا : إن كان طريقا يوم القيامة فهو واضح : أي لا يهديهم طريقا بوصلهم إلى مكان إلّا طريقا يوصل إلى جهنّم. ويجوز أن يراد من الطريق الآيات في الدنيا ، كقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦]. فنفي هديهم إليه إنذار بأنّ الكفر والظلم من شأنهما أن يخيّما على القلب بغشاوة تمنعه من وصول الهدي إليه ، ليحذر المتلبّس بالكفر والظلم من التوغّل فيهما ، فلعلّه أن يصبح ولا