وتلقيب عيسى بالروح طفحت به عبارات الأناجيل. و (من) ابتدائية على التقادير.
فإن قلت : ما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلّت بها النّصارى ، وهلّا وصف المسيح في جملة القصر بمثل ما وصف به محمّد صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) [الكهف : ١١٠] فكان أصرح في بيان العبوديّة ، وأنفى للضلال.
قلت : الحكمة في ذلك أنّ هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل ، أو في كلام الحواريّين وصفا لعيسى ـ عليهالسلام ـ ، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذ ، فلمّا تغيّرت أساليب اللّغات وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرّب الضلال إلى النّصارى في سوء وضعهما فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل ، أي أنّ قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله ، وليس في شيء من ذلك ما يؤدّي إلى اعتقاد أنّه ابن الله وأنّه إله.
وتصدير جملة القصر بأنّه (رَسُولُ اللهِ) ينادي على وصف العبوديّة إذ لا يرسل الإله إلها مثله ، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح.
(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).
الفاء للتفريع عن جملة القصر وما بنيت عليه. أي إذا وضح كلّ ما بيّنه الله من وحدانيّته ، وتنزيهه ، وصدق رسله ، يتفرّع أن آمركم بالإيمان بالله ورسله. وأمروا بالإيمان بالله مع كونهم مؤمنين ، أي النصارى ، لأنّهم لمّا وصفوا الله بما لا يليق فقد أفسدوا الإيمان ، وليكون الأمر بالإيمان بالله تمهيدا للأمر بالإيمان برسله ، وهو المقصود ، وهذا هو الظاهر عندي. وأريد بالرسل جميعهم ، أي لا تكفروا بواحد من رسله. وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهّم متوهّمون أن يعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى ـ عليهالسلام ـ مبالغة في نفي الإلهية عنه.
وقوله : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي لا تنطقوا بهذه الكلمة ، ولعلّها كانت شعارا للنصارى في دينهم ككلمة الشهادة عند المسلمين ، ومن عوائدهم الإشارة إلى التثليث بالأصابع الثلاثة : الإبهام والخنصر والبنصر. والمقصود من الآية النهي عن النطق بالمشتهر