الذات بالأب ، وأقنوم العلم بالابن ، وأقنوم الحياة بالروح القدس ، لأنّ الإنجيل أطلق اسم الأب على الله ، وأطلق اسم الابن على المسيح رسوله ، وأطلق الروح القدس على ما به كوّن المسيح في بطن مريم ، على أنّهم أرادوا أن ينبّهوا على أنّ أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين فراموا أن يدلّوا على عدم تأخّر بعض الصّفات عن بعض فعبّروا بالأب والابن ، (كما عبّر الفلاسفة اليونان بالتولّد). وسمّوا أقنوم العلم بالكلمة لأنّ من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح ، فأرادوا أنّ المسيح مظهر علم الله ، أي أنّه يعلم ما علمه الله ويبلّغه ، وهو معنى الرسالة إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مكلّلا بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الروميّة ، فلمّا اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر فاعتقدوا أنّ الأرباب ثلاثة وهذا أصل النصرانيّة ، وقاربوا عقيدة الشرك.
ثمّ جرّهم الغلوّ في تقديس المسيح فتوهّموا أنّ علم الله اتّحد بالمسيح ، فقالوا : إنّ المسيح صار ناسوته لاهوتا ، باتّحاد أقنوم العلم به ، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد ، ثمّ نشأت فيهم عقيدة الحلول ، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوّعة ، ثمّ اعتقدوا اتّحاد الله بالمسيح ، فقالوا : الله هو المسيح. هذا أصل التثليث عند النّصارى ، وعنه تفرّعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) ـ وقوله ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة : ٧٢] وقوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] وكانوا يقولون : في عيسى لاهوتية من جهة الأب وناسوتيّة ـ أي إنسانية ـ من جهة الأمّ.
وظهر بالإسكندرية راهب اسمه (آريوس) قالوا بالتوحيد وأنّ عيسى عبد الله مخلوق ، وكان في زمن (قسطنطينوس سلطان الرّون باني القسطنطينية). فلمّا تديّن قسطنطينوس المذكور بالنصرانية سنة ٣٢٧ تبع مقالة (آريوس) ، ثمّ رأى مخالفة معظم الرهبان له فأراد أن يوحّد كلمتهم ، فجمع مجمعا من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التّاريخ المسيحي ، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافا كثيرا ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحد ثلاثمائة وبضعة عشر عالما فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحيّة ونصره ، وهذه الطائفة تلقّب (الملكانيّة) نسبة للملك.
واتّفق قولهم على أنّ كلمة الله اتّحدت بجسد عيسى ، وتقمّصت في ناسوته ، أي إنسانيته ، ومازجته امتزاج الخمر بالماء ، فصارت الكلمة ذاتا في بطن مريم ، وصارت تلك الذات ابنا لله تعالى ، فالإله مجموع ثلاثة أشياء :