الأوّل الأب ذو الوجود ، والثاني الابن ذو الكلمة ، أي العلم ، والثالث روح القدس.
ثمّ حدثت فيهم فرقة اليعقوبية وفرقة النّسطوريّة (١) في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان. فاليعقوبيّة ، ويسمّون الآن (أرثودكس) ، ظهروا في أواسط القرن السادس المسيحي ، وهم أسبق من النسطورية ؛ قالوا : انقلبت الإلهية لحما ودما ؛ فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأشبه صنعه صنع الله تعالى ممّا يعجز عنه غير الله تعالى. وكان نصارى الحبشة يعاقبه ، وسنتعرّض لذكرها عند قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) في سورة المائدة [٧٢] ، وعند قوله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) [مريم : ٣٧].
والنّسطوريّة قالت : اتّحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشّمس من كوة من بلّور ، فالمسح إنسان ، وهو كلمة الله ، فلذلك هو إنسان إله ، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانيّة وأخرى إلهيّة ، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النّحلة لقب (جاثليق). وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب. وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كلّ فريق نحلته بين قبائل العرب. وكان الأكاسرة حماة للنسطورية. وقياصرة الرّوم حماة لليعقوبية. وقد شاعت النّصرانيّة بنحلتيها في بكر ، وتغلب ، وربيعة ، ولخم ، وجذام ، وتنوخ ، وكلب ، ونجران ، واليمن ، والبحرين. وقد بسطت هذا ليعلم حسن الإيجاز في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) وإتيانه على هذه المذاهب كلّها. فلله هذا الإعجاز العلمي.
والقول في نصب (خيرا) من قوله : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) كالقول في قوله تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧٠]. والقصر في قوله : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) قصر موصوف
__________________
(١) اليعقوبية منسوبة إلى راهب اسمه يعقوب البرذعاني ، كان راهبا بالقسطنطينية. والنسطورية نسبة إلى نسطور الحكيم ، راهب ظهر في زمن الخليفة المأمون وشرح الأناجيل ، كذا قال الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل» ، والظاهر أنّه من اشتباه الأسماء في أخبار هذه النحلة. والذي يقوله مؤرخو الكنيسة أنّ نحلة النسطورية موجودة من أوائل القرن الخامس من التاريخ المسيحي وأنّ مؤسسها هو البطريق نسطوريوس ، بطريق القسطنطينية السوري ، المولود في حدود سنة ٣٨٠ مسيحية والمتوفّى في برقة في حدود سنة ٤٤٠. وهاتان النحلتان تعتبران عند الملكانية مبتدعين.