الذي تقدّم في قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] وتفضيح لحيلة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشدّهم : وهي أن يتعجّل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهيّئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم ، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق ، وذلك أنّ أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعيانا من أنعام وتمر وحبّ وأصواف فلم يكن شأنها ممّا يكتم ويختزن ، ولا ممّا يعسر نقل الملك فيه كالعقار ، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم ، فإذا وجد الوليّ مال محجوره جشع إلى أكله بالتوسّع في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه ممّا لم يكن ينفق فيه مال نفسه ، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه بالإسراف ، فإنّ الإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسّع في شئون اللذات.
وانتصب (إِسْرافاً) على الحال : أو على النيابة عن المفعول المطلق ، وأيّا ما كان ، فليس القصد تقييد النهي عن الأكل بذلك ، بل المقصود تشويه حالة الأكل.
والبدار مصدر بادره ، وهو مفاعلة من البدر ، وهو العجلة إلى الشيء ، بدره عجله ، وبادره عاجله ، والمفاعلة هنا قصد منها تمثيل هيئة الأولياء في إسرافهم في أكل أموال محاجيرهم عند مشارفتهم البلوغ ، وتوقّع الأولياء سرعة إبّانه ، بحال من يبدر غيره إلى غاية والآخر يبدر إليها فهما يتبادرانها ، كأنّ المحجور يسرع إلى البلوغ ليأخذ ماله ، والوصي يسرع إلى أكله لكيلا يجد اليتيم ما يأخذ منه ، فيذهب يدّعي عليه ، ويقيم البيّنات حتّى يعجز عن إثبات حقوقه ، فقوله : (أَنْ يَكْبَرُوا) في موضع المفعول لمصدر المفاعلة. ويكبر بفتح الموحدة مضارع كبر كعلم إذا زاد في السنّ ، وأمّا كبر ـ بضم الموحدة ـ فهو إذا عظم في القدر ، ويقال : كبر عليه الأمر ـ بضم الموحدة ـ شقّ.
(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ).
عطف على (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) إلخ المقرّر به قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] ليتقرّر النهي عن أكل أموالهم. وهو تخصيص لعموم النهي عن أكل أموال اليتامى في الآيتين السابقتين للترخيص في ضرب من ضروب الأكل ، وهو أن يأكل الوصيّ الفقير من مال محجوره بالمعروف ، وهو راجع إلى إنفاق بعض مال اليتيم في مصلحته ، لأنّه إذا لم يعط وصيّه الفقير بالمعروف ألهاه التدبير لقوته عن تدبير مال محجوره.
وفي لفظ المعروف (حوالة على ما يناسب حال الوصيّ ويتيمه بحسب الأزمان