لأنّهم كانوا يقولون إنّما يرث أموالنا من طاعن بالرمح ، وضرب بالسيف. فإن لم تكن الأبناء الذكور ورث أقرب العصبة : الأب ثمّ الأخ ثمّ العمّ وهكذا ، وكانوا يورثون بالتبنّي وهو أن يتّخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبنّي جميع أحكام الأبوّة.
ويورثون أيضا بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلّة بينهما فيتعاقدا على أنّ دمهما واحد ويتوارثا ، فلمّا جاء الإسلام لم يقع في مكّة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذّر تنفيذ ما يخالف أحكام سكّانها ، ثمّ لمّا هاجر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكّة صار التوريث : بالهجرة ، فالمهاجر يرث المهاجر ، وبالحلف ، وبالمعاقدة ، وبالأخوّة التي آخاها الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار ، ونزل في ذلك قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [النساء : ٣٣] الآية من هاته السورة. وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة ، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين ، فشرع الله الميراث بالقرابة ، وجعل للنساء حظوظا في ذلك فأتمّ الكلمة ، وأسبغ النعمة ، وأومأ إلى أنّ حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها.
وقد كان قوله تعالى : (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أوّل إعطاء لحقّ الإرث للنساء في العرب.
ولكون هذه الآية كالمقدّمة جاءت بإجمال الحقّ والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله ، لقصد تهيئة النفوس ، وحكمة هذا الإجمال حكمة ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقل لتسكن النفوس إليها بالتدريج.
روى الواحدي ، في أسباب النزول ، والطبري ، عن عكرمة ، وأحدهما يزيد على الآخر ما حاصله : إنّ أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كحّة (١) فجاءت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : «إنّ زوجي قتل معك يوم أحد وهاتان بنتاه وقد استوفى عمّهما مالهما فما ترى يا رسول الله؟ فو الله ما تنكحان أبدا إلّا ولهما مال» فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقضي الله في ذلك». فنزلت سورة النساء وفيها : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١]. قال جابر بن عبد الله : فقال رسول الله «ادع لي المرأة وصاحبها» فقال لعمتهما «أعطهما الثلثين وأعط أمّهما الثمن وما بقي فلك». ويروى : أنّ ابني عمّه
__________________
(١) الكحّة بضمّ الكاف وتشديد الحاء المهملة لغة في القحة وهي الخالصة.