قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم |
|
شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا |
فذكر مع العقد العناج وهو حبل يشدّ القربة ، وذكر الكرب وهو حبل آخر للقربة : فرجع بالعقد المجازيّ إلى لوازمه فتخيّل معه عناجا وكربا ، وأراد بجميعها تخييل الاستعارة. فالعقد في الأصل مصدر سمّي به ما يعقد ، وأطلق مجازا على التزام من جانبين لشيء ومقابله ، والموضع المشدود من الحبل يسمّى عقدة. وأطلق العقد أيضا على الشيء المعقود إطلاقا للمصدر على المفعول ، فالعهود عقود ، والتحالف من العقود ، والتبايع والمؤاجرة ونحوهما من العقود ، وهي المراد هنا. ودخل في ذلك الأحكام التي شرعها الله لنا لأنّها كالعقود ، إذ قد التزمها الداخل في الإسلام ضمنا ، وفيها عهد الله الذي أخذه على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به.
ويقع العقد في اصطلاح الفقهاء على «إنشاء تسليم أو تحمّل من جانبين» ؛ فقد يكون إنشاء تسليم كالبيع بثمن ناض ؛ وقد يكون إنشاء تحمّل كالإجارة بأجر ناض ، وكالسلم والقراض ؛ وقد يكون إنشاء تحمّل من جانبين كالنكاح ، إذ المهر لم يعتبر عوضا وإنّما العوض هو تحمّل كلّ من الزوجين حقوقا للآخر. والعقود كلّها تحتاج إلى إيجاب وقبول.
والأمر بالإيفاء بالعقود يدلّ على وجوب ذلك ، فتعيّن أنّ إيفاء العاقد بعقده حقّ عليه ، فلذلك يقضي به عليه ، لأنّ العقود شرعت لسدّ حاجات الأمّة فهي من قسم المناسب الحاجيّ ، فيكون إتمامها حاجيّا ؛ لأنّ مكمّل كلّ قسم من أقسام المناسب الثلاثة يلحق بمكمّله : إن ضروريّا ، أو حاجيا ، أو تحسينا. وفي الحديث «المسلمون على شروطهم إلّا شرطا أحلّ حراما أو حرّم حلالا».
فالعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها مجرّد الصيغة تلزم بإتمام الصيغة أو ما يقوم مقامها ، كالنكاح والبيع. والمراد بما يقوم مقام الصيغة نحو الإشارة للأبكم ، ونحو المعاطاة في البيوع. والعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها الشروع فيها بعد الصيغة تلزم بالشروع ، كالجعل والقراض. وتمييز جزئيّات أحد النوعين من جزئيات الآخر مجال للاجتهاد.
وقال القرافيّ في الفرق التاسع والمائتين : إنّ أصل العقود من حيث هي اللزوم ، وإنّ ما ثبت في الشرع أو عند المجتهدين أنّه مبنيّ على عدم اللزوم بالقول فإنّما ذلك لأنّ في بعض العقود خفاء الحقّ الملتزم به فيخشى تطرّق الغرر إليه ، فوسّع فيها على المتعاقدين فلا تلزمهم إلّا بالشروع في العمل ، لأنّ الشروع فرع التأمّل والتدبّر. ولذلك اختلف