بالتّأويل أو الكتمان ، وأنكر عليهم منكرون أو طالبوهم بالاستظهار على تأويلهم فطمعوا أن يجدوا في تحكيم النّبيء صلىاللهعليهوسلم ما يعتضدون به. وظاهر الشرط يقتضي أنّ الله أعلم رسوله باختلافهم في حكم حدّ الزّنا ، وبعزمهم على تحكيمه قبل أن يصل إليه المستفتون. وقد قال بذلك بعض المفسّرين فتكون هذه الآية من دلائل النّبوءة. ويحتمل أنّ المراد : فإن جاءوك مرّة أخرى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم.
وقد خيّر الله تعالى رسوله صلىاللهعليهوسلم في الحكم بينهم والإعراض عنهم. ووجه التخيير تعارض السببين ؛ فسبب إقامة العدل يقتضي الحكم بينهم ، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم لئلّا يعرّض الحكم النبوي للاستخفاف. وكان ابتداء التخيير في لفظ الآية بالشقّ المقتضي أنّه يحكم بينهم إشارة إلى أنّ الحكم بينهم أولى. ويؤيّده قوله بعد (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي بالحقّ ، وهو حكم الإسلام بالحدّ. وأمّا قوله : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) فذلك تطمين للنّبي صلىاللهعليهوسلم لئلّا يقول في نفسه : كيف أعرض عنهم ، فيتّخذوا ذلك حجّة علينا. يقولون : ركنّا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنّا فلا نسمع دعوتكم من بعد. وهذا ممّا يهتمّ به النّبيء صلىاللهعليهوسلم لأنّه يؤول إلى تنفير رؤسائهم دهماءهم من دعوة الإسلام فطمّنه الله تعالى بأنّه إن فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرّة. ولعلّ في هذا التطمين إشعارا بأنّهم لا طمع في إيمانهم في كلّ حال. وليس المراد بالضرّ ضرّ العداوة أو الأذى لأنّ ذلك لا يهتمّ به النّبيء صلىاللهعليهوسلم ولا يخشاه منهم ، خلافا لما فسّر به المفسّرون هنا.
وتنكير (شَيْئاً) للتحقير كما هو في أمثاله ، مثل (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) وهو منصوب على المفعوليّة المطلقة لأنّه في نية الإضافة إلى مصدر ، أي شيئا من الضرّ ، فهو نائب عن المصدر. وقد تقدّم القول في موقع كلمة شيء عند قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) في سورة البقرة [١٥٥].
والآية تقتضي تخيير حكّام المسلمين في الحكم بين أهل الكتاب إذا حكّموهم ؛ لأنّ إباحة ذلك التخيير لغير الرسول من الحكّام مساو إباحته للرسول. واختلف العلماء في هذه المسألة وفي مسألة حكم حكّام المسلمين في خصومات غير المسلمين. وقد دلّ الاستقراء على أنّ الأصل في الحكم بين غير المسلمين إذا تنازع بعضهم مع بعض أن يحكم بينهم حكّام ملّتهم ، فإذا تحاكموا إلى حكّام المسلمين فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكلّ ما ينتشر منه فساد فلا خلاف أنّه يجب الحكم بينهم (وعلى هذا فالتخيير