لمّا وصف التّوراة بأنّ فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها. ووصفها بالنزول ليدلّ على أنّها وحي من الله ، فاستعير النّزول لبلوغ الوحي لأنّه بلوغ شيء من لدن عظيم ، والعظيم يتخيّل عاليا ، كما تقدّم غير مرّة.
والنّور استعارة للبيان والحقّ ، ولذلك عطف على الهدى ، فأحكامها هادية وواضحة ، والظرفية. حقيقية ، والهدى والنّور دلائلهما. ولك أن تجعل النّور هنا مستعارا للإيمان والحكمة ، كقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ١٣٢] ، فيكون بينه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق ، فالنّور أعمّ ، والعطف لأجل تلك المغايرة بالعموم.
والمراد بالنبيين فيجوز أنّهم أنبياء بني إسرائيل ، موسى والأنبياء الّذين جاءوا من بعده. فالمراد بالّذين أسلموا الّذين كان شرعهم الخاصّ بهم كشرع الإسلام سواء ، لأنّهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمّتهم بل هي مماثلة للإسلام ، وهي الحنيفية الحقّ ، إذ لا شكّ أنّ الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة ، ألا ترى أنّ الخمر ما كانت محرّمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط ، بل حرّمتها التّوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنّك بالنّبيء. ولعلّ هذا هو المراد من وصيّة إبراهيم لبنيه بقوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] كما تقدّم هنالك. وقد قال يوسف ـ عليهالسلام ـ في دعائه : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١]. والمقصود من الوصف بقوله : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء. ويجوز أن يراد بالنبيئين محمد صلىاللهعليهوسلم وعبّر عنه بصيغة الجمع تعظيما له.
واللام في قوله : (لِلَّذِينَ هادُوا) للأجل وليست لتعدية فعل (يَحْكُمُ) إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم. والّذين هادوا هم اليهود ، وهو اسم يرادف معنى الإسرائيليين ، إلّا أنّ أصله يختصّ ببني يهوذا منهم ، فغلب عليهم من بعد ، كما قدّمناه عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) الآية في سورة البقرة [٦٢].
والرّبّانيون جمع ربّاني ، وهو العالم المنسوب إلى الربّ ، أي إلى الله تعالى. فعلى هذا يكون الربّاني نسبا للربّ على غير قياس ، كما قالوا : شعراني لكثير الشعر ، ولحياني لعظيم اللّحية. وقيل : الربّاني العالم المربي ، وهو الّذي يبتدئ النّاس بصغار العلم قبل كباره. ووقع هذا التّفسير في «صحيح البخاري». وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) في سورة آل عمران [٧٩].
والأحبار جمع حبر ، وهو العالم في الملّة الإسرائيليّة ، وهو ـ بفتح الحاء وكسرها ـ ،